📚 دراسة نقدية: القاضي والمتهم.. والسعي وراء المعنى
مقارنة أيديولوجية بين تولستوي وزوسكيند
هل تكمن مأساة الإنسان في الطريقة التي يموت بها، أم في طريقة الحياة التي اختار أن يعيشها؟
تجمع هذه الدراسة بين عملين أدبيين يفصل بينهما قرن من الزمن وفلسفتان متباينتان، هما رواية "موت إيڤان إيليتش" (1886) لليو تولستوي و**"العطر: قصة قاتل"** (1985) لباتريك زوسكيند. يمثل تولستوي رائد الواقعية الأخلاقية التي تنتصر للإيمان، بينما يقدم زوسكيند نموذجاً لما بعد الحداثة التي تتسم بالشك والعدمية. ومع ذلك، يتقاطع مصير بطلي الروايتين، القاضي البيروقراطي إيڤان إيليتش والقاتل العبقري جان باتيست جروني، في نقطة محورية واحدة: فشل القوة في جلب المعنى( الحب، السعادةوالانتماء الطبقي).
تسعى هذه الدراسة إلى إثبات أن كلا البطلين يمثلان نموذجاً للفرد المنسحق الذي يجد العزلة في قمة نجاحه، حيث تقود قوة المناصب الزائفة إلى عزلة الأول، بينما تقود قوة العبقرية المطلقة إلى تدمير الثاني. سيتم تحليل هذه المقارنة عبر خمسة محاور أساسية تركز على الضحية، المحاكمة الوجودية، وفشل التواصل الروحي.
المحور الأول: البطل كـ "ضحية المجتمع" ونقد الطبقة
يمثل كلا البطلين نتاجاً لبيئة اجتماعية خانقة، لكنهما وقعا ضحية لها بطرق متناقضة:
1.1. الانهيار الطبقي والدافع:
إيڤان إيليتش: كان ضحية الشكليات الطبقية والامتثال. كان هدفه الأسمى هو "الحياة اللائقة والمقبولة"" الحياة كما ينبغي أن تكون"، حيث كان يرتقي في السلم البيروقراطي والقضائي، متخذاً كل خطوة (الزواج، شراء المنزل، طبيعة العمل) كديكور لطبقة اجتماعية معينة. أدى هذا التطلع الأعمى للاندماج إلى عزلة اختيارية عن المشاعر الحقيقية.
جان باتيست غروني: كان ضحية الإهمال المطلق والطبقة المسحوقة. ولد في القاع، مُجرداً من الكرامة الإنسانية الأساسية. أدى انسحاقه وغيابه الوجودي (ولادته بلا رائحة شخصية) إلى تحوله الإجرامي، حيث لم يسعَ للاندماج في الطبقة، بل لتجاوزها والسيطرة عليها عبر قوة بدائية.
1.2. القوة الفاشلة:
القوة التي امتلكها كل منهما كانت قوة خارجية وانهارت في مواجهة الحقيقة.
امتلك إيڤان قوة المنصب والسلطة القانونية، التي لم تستطع أن تخلصه من ألم جسده أو زيف حياته.
امتلك غروني قوة السيطرة المطلقة والعبقرية الحسية، التي لم تستطع أن تمنحه هوية أو شعوراً بالحب والسعادة الوجودية.
هذا الفشل المشترك يمثل نقداً لـ "البحث عن المعنى في المكان الخطأ".
المحور الثاني: المحاكمة الوجودية وتضارب الأدوار
يكمن العمق النفسي للروايتين في تحول البطلين إلى قضاة لأنفسهم ولحياتهم، في محكمة تتجاوز القانون:
2.1. إيڤان القاضي الذاتي:
إيڤان كان قاضياً فعلياً يحكم على مصائر الآخرين ببرود روتيني. لكن عندما يواجه مرضه، يصبح متهمًا أمام الموت. التحول الجوهري يكمن في أنه يصبح القاضي الذي يدين نفسه، حيث يحاكم حياته الماضية ويكتشف أنها "كانت خطأ فادحاً". هذا الحكم الصادر منه هو ما يمهد له الطريق إلى الخلاص الروحي والتوبة في اللحظات الأخيرة.
2.2. جروني القاضي المدمر:
جروني رأى نفسه قاضياً على العالم من خلال حاسة الشم، يقيّم الجمال والكمال ويقرر مصير من يمتلكه. رغم إدانة المجتمع له كقاتل، فإنه يبرئ نفسه باستخدام عطره المطلق، مُلغياً سلطة القانون الأخلاقي. ومع ذلك، فإن فشله في الشعور بالحب يمثل إدانته الذاتية النهائية التي تدفعه للفناء. القوة النهائية التي امتلكها لم تنقذه من عبء الخواء الداخلي.
المحور الثالث: الجمال، الهوس، وفشل التواصل الروحي
العلاقة الأكثر حساسية في الروايتين هي علاقة البطل بالحب والتواصل، حيث يظهر الفشل في هذا الجانب كسبب رئيسي للمأساة:
3.1. غياب الحب كدافع للعزلة والإجرام:
لم يعش كلا البطلين الحب الحقيقي. زواج إيڤان كان مجرد واجب اجتماعي و"ديكور"، وتحولت علاقته إلى نزاع بارد. أما غروني، فقد استبدل الهوس بالرائحة بالحب الإنساني. فشلهما في إقامة علاقة عاطفية صادقة هو الدافع الأعمق لعزلة إيڤان وإجرام جروني.
3.2. الفن ونقيض التواصل:
فن إيڤان (فن اللياقة): كان فناً شكلياً زائداً، حيث أعطى الأولوية لترتيب الستائر والأثاث على حساب صحته وروحه، وهو فن يفشل عند مواجهة الموت.
فن جروني (الجمال المطلق): كان فنه جمالاً خالياً من الأخلاق، حيث أصبح القتل ضرورياً للوصول إلى الكمال الحسي. هذا الجمال المطلق لم يستطع أن يمنحه الانتماء.
3.3. الخلاص مقابل العدمية (نقطة الفصل):
النقطة التي تفصل بين المصيرين هي التواصل.
وجد إيڤان الخلاص في تعاطف جيراسيم النقي الذي يمثل الحياة الصادقة.
بينما لم يجد جروني أي "جيراسيم" خاص به، مما أكد عدميته المطلقة ودفعه إلى استخدام قوة العطر لتدمير نفسه.
المحور الرابع: تأثير زمن الكتابة (العصر والأيديولوجية)
4.1. تولستوي (القرن 19 – روسيا القيصرية)
الأيديولوجية السائدة: الواقعية، المسيحية الأخلاقية، النقد الاجتماعي للفساد الطبقي.
تجسيد إيڤان إيليتش: إيڤان نتاج هذا العصر. مأساته هي مأساة فقدان الروح في عالم مهووس بالمظاهر.
الرسالة: تولستوي يقدم خلاصًا (Solace). النهاية (النور والغفران) هي حل روحي تقدمه الأيديولوجية الأخلاقية للمشكلة الوجودية.
4.2. زوسكيند (القرن 20 – ما بعد الحداثة)
الأيديولوجية السائدة: ما بعد الحداثة، العدمية (Nihilism)، التشكيك في الأخلاق والقيم الكبرى.
تجسيد جان باتيست جروني: جروني نتاج أفكار العبثية والنفور. مأساته ليست فقدان الروح، بل غيابها منذ البداية.
الرسالة: زوسكيند لا يقدم خلاصًا. نهاية جروني هي تدمير ذاتي وعبث مطلق، ما يعكس عدمية العصر الحديث الذي لا يرى في القوة أو العبقرية أي قيمة روحية باقية.
المحور الخامس: تأثير الأسلوب الكاتب (الأداة السردية)
5.1. أسلوب تولستوي (التحليل النفسي)
الأداة: تيار الوعي والتحليل النفسي العميق (Psychological realism).
تأثيره على البطل: يسمح لنا بالدخول إلى ذهن إيڤان، والشعور بـ ألمه الجسدي، والعيش معه لحظة بلحظة وهو يحاكم نفسه. الأسلوب نفسه هو جزء من العلاج الروحي للبطل.
5.2. أسلوب زوسكيند (الحسية والسخرية)
الأداة: الواقعية السحرية، الوصف الحسي المفرط، والسخرية المرة.
تأثيره على البطل: يجعلنا نرى جروني من الخارج، كـ ظاهرة فنية أو كيميائية. التركيز على الرائحة يجرّد جروني من إنسانيته ويحوله إلى أداة لهوسه. الأسلوب لا يسعى للتعاطف بل للصدمة وإثبات سذاجة المجتمع (القطيع).
💡 الخاتمة
في الختام، تؤكد المقارنة بين مصير إيڤان إيليتش وجان باتيست جروني أن كلا البطلين يمثلان نقداً جذرياً للقوة عندما تنفصل عن الجوهر الإنساني.
القاضي الذي يسعى لامتلاك السلطة الاجتماعية، والقاتل الذي يسعى لامتلاك القوة الحسية، كلاهما يكتشف أن هذه القوة لم تحل مشكلة العزلة أو النقص الوجودي. في هذا السياق، يتجلى الفرق الأيديولوجي بين الكاتبين:
تولستوي يدين الزيف الاجتماعي ويقدم الخلاص الروحي عبر التوبة.
زوسكيند يدين العبثية البشرية ويسلط الضوء على فراغ العدمية حتى في أقصى درجات الكمال.
إن مأساتهما المشتركة تذكرنا بأن الحكم الحقيقي ليس في القانون أو في الجمال المطلق، بل في المحاسبة الوجودية والقدرة على العيش والاتصال بصدق. وهذا يوضح الخلاف الأيديولوجي: تولستوي يقدم الحل الروحي (الخلاص/النور) المتاح في عصره، بينما يتركنا زوسكيند في فراغ ما بعد الحداثة.
📝 قائمة المراجع (References)
.
زوسكيند، ب. (1986). العطر: قصة قاتل. (ج. إي. وودز، ترجمة). ألفريد أ. كنوبف.
ملاحظة: النسخة العربية المترجمة (نبيل الحفار) (دار الهلال . مصر) ، النسخة الأصلية ألمانية. .
تولستوي، ل. (2025). موت إيڤان إيليتش. (مها جمال). الهيئة العامة لقصور الثقافة(2014).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق