لتولستوي: عودة الى الجذور
«موت ايفان ايليتش» لتولستوي: عودة الى الجذور
ابراهيم العريس
الحياة - 12/06/05//
[align=justify:f68b2a6bd7]في نحو الستين من عمره كتب تولستوي قصة طويلة، لا ينظر اليها عادة باعتبارها واحدة من اعماله الكبيرة، اذ لا يمكن احداً ان يضاهيها بـ «الحرب والسلام» او «انا كارينينا» او «البعث»، ومع هذا يمكن ان تقول عنها انها عمل مهم بالمعنى نفسه الذي يقال فيه عادة عن ان الاعمال الثانوية للكتاب الكبار تكون اكثر قدرة عادة على كشف افكارهم في شكل مباشر، او على الاقل كشف اسرارهم الادبية. ومن هذا، مثلاً، ان نقاداً كثراً يعتبرون «قشتمر» لنجيب محفوظ، رواية – مفتاح تساعد على فهم اسراره الادبية، اكثر مما تفعل «الثلاثية» او «الحرافيش» او «بداية ونهاية». وطبعاً هذه مقاييس ادبية اكاديمية صرفة، لا تحاول ان تحلّ الاعمال الصغرى محل الاعمال الكبرى. ثم ان «موت ايفان ايليتش» لتولستوي ليست على اية حال «عملاً» صغيراً، الا حين تقارن بشوامخ من طراز «الحرب والسلام».
فـ«موت ايفان ايليتش» لتولستوي عمل كبير له مكانته. واذا كان الكونت الروسي الكبير ذو النزعة الانسانية قد اختار ان «يؤخر» كتابة هذا العمل حتى الربع الاخير من حياته، فما هذا الا لانه كان يرى في هذه الرواية ما هو اكثر من العمل الادبي بكثير. واذا كنا في مناسبات سابقة قد اطللنا على هذا العمل لتوستوي مركزين على بعده الادبي والفني، فان له ايضاً جانباً قد تتمكن نظرة ثانية الى العمل من سيره، على ضوء الافكار التي راحت تعمل لدى تولستوي خلال القسم الثاني من حياته، محولة اياه من اديب كبير الى مصلح انساني صاحب مذهب في العدالة الاجتماعية فتن في زمنه كثراً، بما فيهم مفكرنا النهضوي الكبير محمد عبده (الذي راسل تولستوي زمناً)، كما اثار صنف كثر آخرين من ضمنهم الكنيسة الرسمية.
ومن هنا يصح التعامل مع «موت ايفان ايليتش» كعمل فكري، بمقدار ما يصح التعامل معه كعمل روائي. من الناحية الروائية يتناول هذا العمل شخص الموسر البورجوازي المنتمي الى شريحة اثرياء المدن في روسيا نهاية القرن التاسع عشر، ايفان ايليتش. ان كل ما لدى هذا الرجل يتحدث عن النجاح وعن الحياة المستقيمة التي يعيشها افراد طبقته، مصرين على انانيتهم وضيق افقهم وتفاهتهم ونفاقهم – وجملة من صفات اخرى يلصقها تولستوي بهم – وايفان ايليتش هذا، ليس اسوأ ولا أحسن من افراد طبقته. وما كان يمكن لمصيره ان يكون اسوأ او أحسن، خصوصاً انه اقترن بامرأة من طبقته نفسها، وتعزز مركزه في وظيفة جيدة اسندت اليه في محكمة الاستئناف. حياة ايفان ايليتش العائلية لم تكن سعيدة، غير ان الرجل لم يبادر بالشكوى، بل صبر على كل ما يعيشه راضياً مكتفياً. ثم ذات يوم، وعلى طريق صعوده الاجتماعي والوظيفي المتواصل يجد نفسه وقد نقل الى منصب في منقطة ريفيه غير بعيدة من سانت بطرسبرغ. ولكن هناك، وفيما كان ايفان يركب بعض الستائر في البيت، يقع من على السلم فيحس الماً في فخذه... في البداية لا يبالي بذلك الالم... غير ان الالم سرعان ما يتفاقم ما يرغم الرجل على ارتياد عيادات الاطباء واحداً بعد الآخر.. لكن كل واحد من هؤلاء يشخص الحالة على مزاجه، من دون ان يقرّ لهم قرار. وهكذا من طبيب الى آخر ومن تشخيص الى آخر يبدأ فخذ ايفان بالاهتراء وتتزايد آلامه، فيقرر ذات لحظة ان يتوقف عن زيارة الاطباء واستشارتهم، مفضلاً الاكتفاء بتناول المخدرات كمسكنات. ولنا هنا ان نتخيل مقدار ما سوف تزاد حال صاحبنا سوءاً، الى درجة ان زوجته لا تعود تبالي بحاله، واصدقاؤه يسأمون الاهتمام به، ولا يجد من يقف الى جانبه في نهاية الامر سوى خادم عجوز، هو اصلاً فلاح من الريف يدعى غيراسيم.
> في البداية يقوم غيراسيم بالمهمة كوظيفة وعمل، لكنه بعد ذلك ينصرف بكل جوارحه الى مساعدة سيده وقد اشفق عليه من آلامه ومن انصراف الناس عنه. الآلام سيخففها غيراسيم اذاً، كما انه هو الذي سيخفف من وحدة ايفان ايليتش وعزلته. سيقوم على خدمته ليلاً ونهاراً، معتنياً به، محاوراً اياه، متشاركاً معه في حب البلاد والأرض.
> واضح هنا ان غيراسيم هذا، هو الشخصية المحورية والأساسية في رواية ليون تولستوي هذه: انه هنا يرمز الى الشعب الروسي الطيب، الشعب الذي يتمسك بواجبه ولا يحيد عنه، ويقوم بما يتعين عليه القيام به، من دون أن يطلب شيئاً أو مكافأة لنفسه. انه الأرض الطيبة المعطاء التي تعطي من دون أن تأخذ، وتشفي من دون أن تشكو.
> وهنا، بالنسبة الى تولستوي، بيت القصيد، ليس في هذا العمل الروائي الطيب، بل في فكره ككل، اذ خلال تلك السنوات كان قد بدأ يتجسد في شكل نهائي ذلك الايمان المطلق لصاحب «آنا كارينينا» بالأرض وبالانسان الطيب الذي هو ابن الطبيعة وابن الأرض وسيدهما. ففي ذلك الحين كان تولستوي قد بدأ يثور ثورته الفكرية الحادة على تفاهة الطبقات العليا في المجتمع من التي كانت قد بدأت تؤله، بشكل مرضي، الأفكار المتعلقة بالنجاح المادي والاجتماعي على حساب النجاح الروحي والفكري. وكان شعار تولستوي ومذهبه في ذلك الحين قد بدأ يتجسد بشكل جيد: عودوا الى الأرض وروعتها، وعودوا الى الانسان الحقيقي الأصيل وبساطته. وذلكم هو، على اية حال، الملخص المنطقي لمذهب تولستوي ككل، المذهب الذي كلفه منذ ذلك الحين غالياً. ونقول، منذ ذلك الحين، لأننا كناقد أصبحنا في العام 1886، أي الحقبة التي أمعن فيها تولستوي سبراً للروح الروسية ولروح الانسان الروسي. ومن هنا فإن الجانب الأهم في «موت ايفان ايليتش» انما كان، ويبقى، المقارنة التي يندفع فيها القارئ راصداً الفوارق بين اندفاع غيراسيم وغيرته على ايفان ايليتش، وبين أبناء الطبقة التي ينتمي اليها هذا الأخير أصلاً... فهل يهم، بعد هذا، كثيراً، المجرى الحدثي الباقي في الرواية: هل يهم كل تلك التطورات التي تطرأ على شخصية ايفان ايليتش في أيامه الأخيرة، وبدؤه الحنو على عائلته، وتغير لهجته ولغته واهتماماته، قبل أن يصبح في نهاية الأمر مستعداً كل الاستعداد لاستقبال الموت؟ يهم هذا كله ولكن بمقدار ما نفهم دلالاته وندركها. فالحقيقة ان تبدلات ايليتش لا تحصل تحت وطأة المرض وتحت وطأة النهاية المحتمة، بل تحديداً – وهذا ما رمى ايليتش الى قوله – تحت وطأة حواراته مع غيراسيم ورصده تصرفاته. وبدء استعداده للعودة الى الأرض، أم الطبيعة والشعب، كجزء مكون من علاقته بالكون.
> ومن هنا يصبح موت ايفان ايليتش موتاً طقوسياً رمزياً: يصبح نوعاً من العودة الى الأرض والى الجذور، بعد سأم طويل من القيم الجدية المفروضة على حياة اجتماعية بائسة ومريضة. وبهذا يصح أن ننظر في نهاية الأمر الى «موت ايفان ايليتش» بوصفها موقفاً فلسفياً وفكرياً، سيعبر عنه ليون تولستوي (1828 – 1910) أكثر وأكثر، في كتاباته، ولكن أكثر من هذا: في مواقفه الفكرية ومحاولاته الدؤوبة لخلق مذهب روحي يرتبط بالطبيعة والانسان، وعودته نفسها الى الأرض كفعل ارتباط بالجذور. وهذا كله نراه في هذه الرواية بأكثر مما نراه في الكثير من أعمال ليون تولستوي، الذي يبقى، بعد هذا، واحداً من كبار الكتّاب في تاريخ الأدب والفكر في القرنين الأخيرين.[/align:f68b2a6bd7
|
في اللحظات الأخيرة أثناء احتضار بطل رواية تولستوي «موت إيفان إيليتش» (1868)، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة 2014، سلسلة الألف كتاب، ترجمة مها جمال وتصدير لرفعت سلام، يحدثُ نقاش بين البطل الذي كان نموذجاً للموظف المثالي الجاد في عمله والطامح للترقي في السلم الوظيفي، وبين طبيبه بعد أن سقط فريسة للخوف، ثم مستسلماً للموت إثر المرض المجهول الذي أصابه، هكذا «أنت تعرف أنك لن تستطيع أن تفعل شيئاً من أجلي، فاتركني وحدي» فيرد الطبيب: «نستطيع تخفيف معاناتك»، فيرد منفعلاً «إنك لا تستطيع حتى فعل ذلك فدعني كما أنا»، هذا الحوار القصير أو النقاش يشي باستسلام إيفان إيليتش أو القاضي للموت، بعدما كان خائفاً منه، لكن هذا الاستسلام مبعثه أولاً إلى الحكمة التي تجلت عليه، حتى غدا في كثير من خطاباته يقوم بدور الواعظ الديني «كل شيء مجاف للحقيقة، حتى حياتك نفسها، كذب وخداع، تحجب عنك حقيقة الحياة والموت»، تنتهي الرواية بموت القاضي بعد عذاب ثلاثة أيام وصراخ وأنين موجعين بعد أن عرى الصورة المزيفة للحياة ومن حوله.
لا يمكن فهم دلالة الرواية العميقة، على رغم البساطة الواضحة في الحكاية والمباشرة في الهدف، إلا بالرجوع إلى السياقات الثقافية التي أُنتجت في زمنها الرواية، بخاصة بعد التحول الذي طرأ على شخصية تولستوي نفسه بعد أن هجر المسيحية، ومناهضته سياسةَ الكنيسة، ورفضه العنف ودعوته إلى السلام، وعدم الاستغلال، وميله للحياة البسيطة. الرواية يمكن اعتبارها مخاضاً لتجربة حقيقية عاشها تولستوي وعبر عنها في قصته «مذكرات رجل مجنون»، وهي خلاصة رحلة قام بها إلى مدينة أرزماس، بمعني أدق هي نتاج «رعب أرزماس» كما عبر عن ذلك صديقه مكسيم غوركي واصفاً ما اعتراه بعد هذه الرحلة الفارقة في حياته، حيث عصفت به أزمة روحية جعلته في مواجهة مع الموت، وبعد أن كان يخاف منه صار في مواحهة معه وفي ضوئه راجع مواقفه، بخاصة بعد أزمته مع الكنيسة، فبدأ يكتب عن الدين والسياسة. هذه الفلسفة التي خرج بها من محنته تجلت في هذه الرواية القصيرة «موت إيفان إيليتش»، أو كما سماها «موت قاضٍ». من هنا، تتجلى أهمية الرواية في أنها تؤسس لمرحلة جديدة في أدب تولستوي مغايرة تماماً لما قدمه في الحرب والسلام 1868، أو آنا كارينينا 1877 وغيرها من الأعمال، وكأنها وعاء أيديولوجي حوى أفكاره المثالية ومراجعاته لفلسفة الحياة، مُتخذاً موقفاً من الموت والحياة أكثر جرأة مما كان عليه من قبل.
يقدم لنا الراوي الغائب بطل الرواية (إيفان) كنموذج مثالي للطبقة المتوسطة التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر في روسيا، موفراً له الضمانات كافة للانتماء إلى هذا العالم والانصهار فيه، فهو ابن لموظف خدم في وظائف عدة وأقسام في بطرسبرغ لديه ثلاثة من الأبناء. إيفان بطل الرواية شخصية تختلف عن أخويه حتى الناس كانوا يطلقون عليه «فينيق العائلة»، كان مقبولاً من الجميع درس القانون مع أخيه الأصغر الذي فشل في إكماله. تسير حياته على وتيرة واحدة، فلم يكن مُتملقاً عندما كان صبياً أو حتى رجلاً، وإن كان لا يمنع هذا منذ بداياته أنه كان مشدوداً لذوي المكانة العالية (طموحاً)، لكن أزمته التي سيكتشفها وهو على فراش الاحتضار أنه استسلم للملذات الحسية والغرور ولكل ما يدور وسط الطبقات العُليا لليبراليين، ولما عُين قاضياً راح يتعامل مع المهنة الجديدة وفق ما تقتضي طبائعها، فكان كما ينبغي أن يكون: «رجلاً مُحتشماً، يفرضُ الاحترام العام، ويستطيعُ الفصل بين واجباته الرسمية وحياته الشخصية». ثمة تغيرات حدثت له بعد توليه مهنتة كقاضي تحقيقات، في إشارة إلى ضعف النفس البشرية إزاء المناصب، حيث «بدأ يشعرُ بطبيعة مهمته حتى أنه كان يحسُ بأن الناس بلا استثناء - حتى المهمين والمغرورين - كانوا في متناول سطوته». المنطق الذي سارت عليه حياته الوظيفية والاجتماعية، عكسه على زواجه فلم يكن الحب هو الدافع للزواج من براسكوفيا فيدروفيا التي التقى بها في حفل راقص، وإنما ملائمتها لتحقيق طموحه الطبقي، فهي من عائلة محترمة ولديها ممتلكات، حياته الزوجية في بدايتها كانت تسير هانئة لا تخلو من بعض المشكلات الصغيرة، أما حياته العملية فكانت صاعدة إلى ما يرنو، فالترقيات تصيبه بلا تعب، والأموال تزداد، ثم تبدأ المُنغصات الزوجية تظهر، وهو ما جعله ناقماً على الزواج، حتى عندما ينتقلُ النقلة الكبرى بالعمل كقاضي تحقيقات في بطرسبرغ يشعرُ بأن مشاكله الزوجية ستتلاشي، وعند هذه النقطة تأخذ حياة القاضي خطاً آخر ومساراً عكس الأول، فأثناء مساعدة النجار الذي يقوم بتركيب الستائر في بيته الجديد يسقطُ من على السُلّم، في بداية الأمر لم يُبال بذلك الألم، لكن سرعان ما ازداد الألم فذهب إلى الطبيب وهنا تبدأ المشكلة الحقيقية حيث بدأ الشك يساوره، بخاصة بعد تباين وجهات نظر الأطباء في مرضه، فينتهي به الحال إلى رفض الأطباء والاكتفاء بالأفيون كمسكن، حتى تحين لحظة وفاته الدرامية التي أسقطت الهالة عن زيف حياته السابقة، وعن ضعف العلاقات الإنسانية، وعن حالة الوحدة التي عاشها، ولم يجد العون من الزوجة أو الأبناء الذين ضجروا من حالة مرضه وآلامه، باستثناء الخادم سيراغيم، وهي الرسالة الثانية التي سعى إليها تولستوي عبر هذه الشخصية البسيطة والريفية التي عبر بها الكاتب عن جموع الشعب الروسي، إذ بدت نظرته لموت سيده لا تخلو من إقرار بالأمر فيقول «إنها إرادة الله، ونحن جميعاً سنأتي إلى يوم كهذا». التركيز على سيراغيم في مرض سيده إشارة ذات مغزى للعودة إلى الجذور والطبيعة، بعدما أفسدت الطبقية المجتمع بعد الثورة الصناعية وصبغته بهالة من الكذب والنفاق.
يبدأ الراوي قصة إيفان من نهايتها، ليكشف لنا كيف صار الموت أيضاً حدثاً قابلاً للاستغلال، فأصدقاء القاضي الذي كان زميلاً لهم، يقرأون خبر وفاته في الصحيفة، وهم في استراحة المحكمة، لكن الخبر لا يمر عليهم بصورة تكشف عن تأثرهم أو حزنهم لفقد صديق كان بينهم ذات يوم، بمقدار ما يكشف عن كيف أن لكل شخص غرضاً سيتحقق بهذه الميتة، ومن ثم كان الموت دافعاً لحياة جديدة لآخرين، فأحد هؤلاء الأصدقاء أتاحت له الوفاة التفكير في شغل مقعده الذي سيخلو من بعده. والثاني سيستغل الوفاة في أن يثبت لزوجته بأنه في استطاعته أن يقدم خدمات لأقاربه، فالوفاة ستؤدي إلى انتقال زوج أخته إلى المدينة وهو ما سيسعد زوجته بالطبع. الغريب مع هذا الخبر السيئ أنهم يواصلون لعب الورق. أمر الاستغلال لا يبعدُ عن الزوجة التي لم يشغلها سوى التفكير في مقبرة رخيصة وكيفية الحصول على منحة الحكومة بعد الوفاة؟ أو كيف تجعل المنحة تزيد؟ وهي الأسئلة التي كانت مترددة في طرحها على صديقه بيتر إيفانوفيتش، وإن كانت تراودها كثيراً.
بعد مقابلة الطبيب انتابت شخصيته تغيرات قطعية، فقد تغيرت نظرته إلى الأشياء و «بدا كل شيء في الطريق باعثاً على الكآبة، سائقو التاكسي، البيوت، المارة والمحال، كانوا يبعثون على الغم، وألمه هذا الغامض المُزعج الذي لم يتوقف للحظة واحدة، بل إنه قد اكتسب مغزى جديداً وخطيراً بملاحظات الطبيب المشكوك فيها». السؤال الذي ألح عليه هل هو الموت؟ فيتحدث في مونولوغ ذاتي «الموت، نعم، الموت، ولا أحد يعرف أو يتمنى أن يعرف الموت، ولا أحد منهم يشفق علي، إنهم الآن يلعبون (سمع من خلال الباب الصوت البعيد لأغنية والأصوات المصاحبة لها) بالنسبة لهم، كل شيء سيان، لكنهم سيموتون أيضاً! ثم هم في وقت لاحق، لكنه سيكون سيان بالنسبة لهم، هم مرحون... الحيوانات!»، فالزوجة لا تراعي مرضه، بل تستغل هذا المرض خشية ألا تفقد ماله، وابنته غير مبالية به، ترتدي ملابس السهرة وتخرج مع أمها للأوبرا، بل تُتمّان خطبتها على القاضي الشاب، كأن لا مكان لأحاسيس وسط هذا المجتمع. يُدرك البطل عند وصوله إلى حافة الموت أن طريقه كانت خطأ لذا يُقرر إعادة بناء ذلك المجرى القديم. وبعد تكرار الزيارات للأطباء وفشلهم في طمأنته بدأت مرحلة جديدة، لحظة انتظار الموت والتي صارت لإيفان إيليتش بمثابة لحظات للتأمُل في من حوله، وإعادة تقويم ومراجعة للماضي وللعلاقات. اللافت أن الراوي يركز في محنة المرض التي لازمته شهوراً على تتبع تصرفات من هم حوله، ومراجعة حياته الماضية على مهل، ساخطاً من أفعاله ووقته الذي بدده في انهماكه في عمله واشتغالاته التي جعلته أشبه بآلة منتظمة في دولاب العمل، هذه المراجعات لماضيه عكست جوهر الفلسفة التي ترمي إليها الرواية القصيرة، وهي أن الإنسان لا يُدرك قيمة العلاقات إلا في أوقات المحن أو عند اقتراب الموت، فالعلاقات الإنسانية أهم من المناصب وأهم من الجري لجمع المال لأنها الذخيرة الباقية، وهو ما أدركه في النهاية «أنه - مع الأسف - لم يعش حياته كما كان ينبغي له أن يعيشها» فكلُ شيء بالنسبة إليه كان زائفاً وهو ما جاء في اعترافه المتأخر «فلقد ضيعتُ ما مُنح لي، ومن المستحيل استعادته - فماذا إذاً؟». وإن كان تساؤله في الوقت غير المناسب أيضاً!
الروايةُ على صغر حجهما وسردها البسيط الذي يخلو من التعقيد، تقف عند معانٍ إنسانية نبيلة، فتكشف عن ضعف النفس البشرية وتنتقد زيف الحياة الأرستقراطية، بتسليط الضوء على هشاشة النفس، وأن في الحياة ثمة أشياء تستحق أن تمنح أو يُستمتع بها، وفي المقابل أن الإنسان ضعيف فتلك السقطة من على السلم، والتي لم يشعر بتأثيرها لحظتها حولت حياته إلى جحيم، ثم في فترة الاحتضار كشفت له عن خواء ماضيه السابق، يستغرقُ الثلث الأخيرة من الرواية في تساؤلات عن الحياة والعذاب والموت، وعما يريده؟ وغيرها من الأسئلة التي تتصل بالفلسفة الوجودية، وبعضها يعكس قنوطه من كل شيء: لماذا كل هذا؟ فالكاتب نجح في تحويل نهاية موظف مرموق اجتماعياً ومهنياً وهو يحتضر إلى وعي مؤلم بتفاهة حياته وبزيف علاقاته الأسرية، وبالتالي نجح في إيصال رسالته للاستمتاع بالحياة ودعوته إلى السلام النفسي، عبر بقعة الضوء التي خلقتها تأملاته، لندرك أن في الحياة أشياء تستحق أن نستمتع بها، لعل أهمها البساطة والعلاقات الإنسانية.
موت إيفان إيليتش
أحمد مجدي همام
10 يوليو 2016
صدرت ضمن سلسلة «المئة كتاب»، التي تصدرها الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، ترجمة لرواية «موت إيفان إيليتش» للكاتب الروسي ليف تولستوي، بتوقيع مها كمال. الكتاب الذي حمل الرقم (13) في السلسلة التي يشرف عليها الشاعر والمترجم رفعت سلاّم، تضمن أيضاً ست قصص قصيرة.
وبعيداً من جدلية التصنيف بين القصة الطويلة أو النوفيللا، تقدم سردية «موت إيفان إيليتش»، تقريراً عن احتضار المذكور، شبه دائري يبدأ بخبر وفاة إيفان إيليتش وجنازته ومجلس عزائه في الفصل الأول، ثم يمتد عبر عشرة فصول تحكي بضمير الغائب حياة المواطن الروسي الطموح، الذي درس الحقوق، ومن ثم ارتقى في سلم الوظيفة في روسيا القيصرية، حتى غدا قاضياً مرموقاً ذا مهابة، إلى ان داهمه المرض، الذي جعله يذبل ويعاني من احتضار امتد شهوراً. ثم في الفصل الثاني عشر والأخير يموت إيفان إيليتش، ليلتقي موته بنقطة البداية.
هذه الدائرة التي تعرض لدورة حياة مواطن روسي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر (صدرت الرواية في 1886)، لم تكن عبثية، فهي المتاهة المكتملة والأمثل، التي تلتقي فيها البداية بالنهاية، ومع كل دورة يصل مرتاد الرحلة إلى النتيجة نفسها: لا شيء. الكل إلى زوال، والإنسان الذي لا يترك خلفه شيئاً باقياً - أي شيء - سيكتشف فداحة الخدعة التي تعرض لها، سنوات من الركض تفضي إلى لا شيء.
هكذا كانت تأملات إيفان إيليتش وهو يحتضر، «كلما أوغل أكثر في الماضي كان يرى كم كان أكثر حيوية - فكّر إيفان إيليتش - هناك بقعة ضوء واحدة هناك في الوراء، في بداية الحياة، وفيما بعد يصبح كل شيء أكثر سواداً، ويتفاقم أسرع فأسرع، بمعدل معكوس إلى مربع المسافة من الموت، فالحياة سلسلة من الآلام المتزايدة، تطير أبعد فأبعد إلى نهايتها، المعاناة الأفظع».
في المراحل المبكرة من مرضه، بدأ إيفان إيليتش يشعر بشيء يضغط على جنبه بعد سقوط عن سلم... الكُلية أو الزائدة الدودية، هكذا قال الأطباء، وبناء عليه انشغل باله بصحته، وبدأ يخسر تركيزه في العمل لصالح المرض، وهو الأمر الذي أفضى إلى مساحات متقطعة من التأمل، مساحات طرقها إيليتش كلها، وكانت دوماً تقوده إلى التفكير في جدوى الحياة، وثقل وطأة الذكريات، وتساؤلات وجودية لم يكن واجهها أثناء انشغاله بطموحاته الوظيفية عندما كان بكامل صحته.
تصبغ هذه التأملات الجو بالكآبة، كآبة المريض الذي يعرف أنه يحتضر ولا سبيل لشفائه، ويشعر بالوحدة، فإيفان إيليتش معزول - نفسياً - منذ سنوات عن زوجته، إذ لم يبق بينهما سوى رابط واه تشده العِشرة والحياة المشتركة والأبناء، الذين اختاروا أيضاً التخفف من حقيقة احتضار والدهم في إحدى غرف البيت، وبالتالي لجأوا لقضاء أكثر أوقاتهم بعيداً عنه، يرتادون المسارح ويسهرون مع أصدقائهم متناسين أن الأب ينازع. «أكثر ما كان يعذب إيفان إيليتش، تلك الأكاذيب التي تم تمثيلها عليه عشية موته، وقدر لها أن تنحط بهذا الفعل الرهيب الجليل إلى مستوى زياراتهم، وستائرهم، والسمك الذي سيتناولونه في العشاء، كانت عذاباً رهيباً لإيفان إيليتش والغريب أنه في مرات عديدة حين يقومون بسلوكياتهم الغريبة ، كان على وشك أن يصيح فيهم: كفوا عن الكذب، أنتم تعرفون أني أموت، فكفوا عن الكذب، لكن لم تكن لديه القدرة ليفعل ذلك».
يقدم تولستوي دراسة في علم نفس الاحتضار، إن صحت التسمية، ويقدم تقريراً عن حياة إيفان إيليتش، وعن شهور احتضاره، صراعاته النفسية ومعاناته من الألم، التساؤلات والأفكار التي تتداعى، بخاصة تلك المتعلقة بمدى صواب الاختيارات التي انحاز لها طوال حياته، ووحدته، تلك الوحدة التي لم يكن يكسرها سوى الخادم الريفي جيراسيم، والذي طالما ساعده وواساه في محنته.
تمتد هذه الرؤية التأملية للرجل المحتضر، وتصل إلى المراحل المتأخرة التي لا يبقى فيها سوى الذكريات، فرقعات ضوئية تومض في الذاكرة، تختلط بالحاضر، تقترب وتبتعد، تشكل عزاءً وعبئاً نفسياً في آن، تهويمات الرمق الأخير، خيالات وذكريات لا تجلب إلا الحزن.
على غير المعتاد، لا يظهر العمل تفاصيل المجتمع الروسي، باستثناء ذكر الطموحات المهنية بين موظفي الدولة الذين كان البطل واحداً منهم. ليس هناك علاقات إنسانية تحت المنظار، غير مرور عابر على العلاقة المتوترة بين إيفان وزوجته، وتلك العلاقة المخصصة لتضييع الوقت بينه وبين أصدقائه، ضيق مساحة الثنائيات، والتركيز على الفرد - إيفان إيليتش - يلغي مساحات الحوار المحتملة، ويحول النص إلى سرد متواصل تتخلله تساؤلات وتأملات إيفان إيليتش، من دون أن تتحول تلك التأملات إلى مونولوج حقيقي.
وبينما يبدأ الفصل الأول بخبر موت إيفان إيليتش الذي وصل إلى زملائه، ويعرض شذرات من صراع الموظفين على منصبه، لم يبدأ العمل بالراحل نفسه، كانما أراد الكاتب أن يوصّل فكرة من بين السطور، أراد أن يقول: إنها (الحياة)، دائرة مغلقة، والبطل المتوفي لم يكن إلا شيئاً تالفاً في تلك الآلة الضخمة، انتهى عمره الافتراضي، وسيحل آخر محله، وتلك المعاناة الرهيبة التي كانت من نصيب إيفان إيليتش وحده، ومعاناة الاحتضار البطيء بعد حياة طويلة حافلة، ليست سوى العبث بعينه.

موت إيفان إيليتش
“موت إيفان إيليتش” وقصص أخرى.. الأغنياء يمتنعون
نشر في : الأحد 7 يونيو 2015 - 03:17 ص | آخر تحديث : الأحد 7 يونيو 2015 - 04:10 ص
سلمى هشام فتحي – التقرير
من حسن حظي أنني استطعت الاستفادة -ولو قليلا- من دور النشر الروسية التي تواجدت، وحتى بداية التسعينيات، بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، فكان من نصيبي قصص الأطفال والقصص الشعبي المصورة. لكن جيلي من مواليد الثمانينيات في مصر لم يرتكزوا في اطلاعاتهم الأولى على الأعمال الروسية لكتاب مثل تولستوي ودوستويفسكي وتشيكوف كما كان الأمر مع جيل الآباء، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسيطرة القطب الأمريكي الأوحد ندر الكتاب الروسي ولم تعد قراءته شائعة، خاصة مع ضخامة حجم الأعمال المهمة.
لكن “الهيئة العامة لقصور الثقافة” بمصر استطاعت عبر سلسلة “المئة كتاب” العودة بالأدب الروسي عبر ترجمة حديثة لرواية “موت إيفان إيليتش” و 6 قصص قصيرة للروائي الروسي الكبير ليف (ليو) تولستوي (1828-1910)، قامت بها المترجمة مها جمّال عام 2014، ويمثل الكتاب مدخلًا جيدًا وقصيرًا نسبة إلى الأعمال الأشهر لتولستوي كـ”الحرب والسلام” و”آنا كارنينا”، وهو مدخل للأدب الروسي عامة وتولستوي بصفة خاصة.
موت إيفان إيليتش .. الحياة الزائفة
“كانت حياة إيفان إيليتش بالغة البساطة والعادية، ولهذا كانت بالغة الفظاعة“
كان القاضي في روسيا القيصرية إيفان إيليتش مشدودًا بطبيعته إلى ذوي المكانة العالية كفراشة يجتذبها الضوء، ويحيا كما ينبغي لمن يريد الانضمام إلى الطبقة الغنية أن يحيا، فحتى الزواج من امرأة معينة كان مما ينبغي عليه فعله، وترتيب المنزل على أحدث طراز ليتشابه في النهاية مع منازل الأغنياء.
لكن هؤلاء الناس الذين أحب إيفان الارتباط بهم لم يروا في موته سوى فرصة للترقي لمنصبه، بينما حزنت زوجته وابنته حين أصابه المرض الذي سيفضي إلى موته بافتعال وبرود، فلم يبقى أمامه إلا خادمه القروي جيراسيم، وابنه الذي تعاطف معه بصدق.
وتبدو التيمة الأساسية للرواية عن الموت فالقاضي يحتضر ويفكر في كيفية قضائه لحياته، وهل كان لها معنى من الأساس؟ ولما يستحق العذاب والمرض وهو قد عاش (كما ينبغي له)؟ ويصور الغريزة الإنسانية بصدق حين يفكر زملاء “إيليتش” بعد سماع خبر وفاته: “إنه هو من مات، لا أنا”، فأي مكروه يحدث للآخرين فقط يبعد عنا تمامًا.
كتب تولستوي روايته تلك في مرحلة متأخرة من حياته ونضجه الإبداعي عام 1886، حين عمل على تفسير تعاليم المسيح الأخلاقية، والتي قادته إلى أن يصبح مسيحيًا فوضويًا ينصب تفكيره على تدبر مسيرة الإنسان، وتمحيص الغاية من وجوده وحياته.
اليوشا الإناء .. على الفطرة
“وكلما قام بالكثير تم تكليفه بأعمال أكثر“
تحكي هذه القصة البسيطة عن اليوشا الفتى الفقير الذي يعمل دون كلل أو ملل وبابتسامة دائمة على وجهه، ويتقبل ما تمنحه الحياة له حتى لو كان غير عادل، وقد أثنى معاصرو تولستوي على هذه القصة الرقيقة، والمفضلة لدي في هذه المجموعة، فوصفها د.س. مرسكي بـ”تحفة من الجمال النادر”، كما ذكرت إحدى قريبات الكاتب في مذكراتها أن اليوشا الإناء شخصية حقيقية، وكان مساعدًا للطاهي.
بعد الرقصة .. الكولونيل القاسي
“من الواضح أنه يعرف شيئًا لا أعرفه”، فكرت في الكولونيل “لو أني عرفت ما يعرفه، لفهمت بالتأكيد“
يستقي تولستوي مشهد التعذيب القاسي في تلك القصة من خبرته بالحرب، وخاصة “حرب القرم” (1853-1856) التي شارك بها، كما يفعل في روايته الأشهر “الحرب والسلام” (1869)، وهو ينبذ العنف ويؤمن “بالمقاومة السلمية”، حيث تأثر باتجاه غاندي، ومارتن لوثر كنج، وغيرهما.
نشر في : الأحد 7 يونيو 2015 - 03:17 ص | آخر تحديث : الأحد 7 يونيو 2015 - 04:10 ص
سلمى هشام فتحي – التقرير
من حسن حظي أنني استطعت الاستفادة -ولو قليلا- من دور النشر الروسية التي تواجدت، وحتى بداية التسعينيات، بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، فكان من نصيبي قصص الأطفال والقصص الشعبي المصورة. لكن جيلي من مواليد الثمانينيات في مصر لم يرتكزوا في اطلاعاتهم الأولى على الأعمال الروسية لكتاب مثل تولستوي ودوستويفسكي وتشيكوف كما كان الأمر مع جيل الآباء، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسيطرة القطب الأمريكي الأوحد ندر الكتاب الروسي ولم تعد قراءته شائعة، خاصة مع ضخامة حجم الأعمال المهمة.
لكن “الهيئة العامة لقصور الثقافة” بمصر استطاعت عبر سلسلة “المئة كتاب” العودة بالأدب الروسي عبر ترجمة حديثة لرواية “موت إيفان إيليتش” و 6 قصص قصيرة للروائي الروسي الكبير ليف (ليو) تولستوي (1828-1910)، قامت بها المترجمة مها جمّال عام 2014، ويمثل الكتاب مدخلًا جيدًا وقصيرًا نسبة إلى الأعمال الأشهر لتولستوي كـ”الحرب والسلام” و”آنا كارنينا”، وهو مدخل للأدب الروسي عامة وتولستوي بصفة خاصة.
موت إيفان إيليتش .. الحياة الزائفة
“كانت حياة إيفان إيليتش بالغة البساطة والعادية، ولهذا كانت بالغة الفظاعة“
كان القاضي في روسيا القيصرية إيفان إيليتش مشدودًا بطبيعته إلى ذوي المكانة العالية كفراشة يجتذبها الضوء، ويحيا كما ينبغي لمن يريد الانضمام إلى الطبقة الغنية أن يحيا، فحتى الزواج من امرأة معينة كان مما ينبغي عليه فعله، وترتيب المنزل على أحدث طراز ليتشابه في النهاية مع منازل الأغنياء.
لكن هؤلاء الناس الذين أحب إيفان الارتباط بهم لم يروا في موته سوى فرصة للترقي لمنصبه، بينما حزنت زوجته وابنته حين أصابه المرض الذي سيفضي إلى موته بافتعال وبرود، فلم يبقى أمامه إلا خادمه القروي جيراسيم، وابنه الذي تعاطف معه بصدق.
وتبدو التيمة الأساسية للرواية عن الموت فالقاضي يحتضر ويفكر في كيفية قضائه لحياته، وهل كان لها معنى من الأساس؟ ولما يستحق العذاب والمرض وهو قد عاش (كما ينبغي له)؟ ويصور الغريزة الإنسانية بصدق حين يفكر زملاء “إيليتش” بعد سماع خبر وفاته: “إنه هو من مات، لا أنا”، فأي مكروه يحدث للآخرين فقط يبعد عنا تمامًا.
كتب تولستوي روايته تلك في مرحلة متأخرة من حياته ونضجه الإبداعي عام 1886، حين عمل على تفسير تعاليم المسيح الأخلاقية، والتي قادته إلى أن يصبح مسيحيًا فوضويًا ينصب تفكيره على تدبر مسيرة الإنسان، وتمحيص الغاية من وجوده وحياته.
اليوشا الإناء .. على الفطرة
“وكلما قام بالكثير تم تكليفه بأعمال أكثر“
تحكي هذه القصة البسيطة عن اليوشا الفتى الفقير الذي يعمل دون كلل أو ملل وبابتسامة دائمة على وجهه، ويتقبل ما تمنحه الحياة له حتى لو كان غير عادل، وقد أثنى معاصرو تولستوي على هذه القصة الرقيقة، والمفضلة لدي في هذه المجموعة، فوصفها د.س. مرسكي بـ”تحفة من الجمال النادر”، كما ذكرت إحدى قريبات الكاتب في مذكراتها أن اليوشا الإناء شخصية حقيقية، وكان مساعدًا للطاهي.
بعد الرقصة .. الكولونيل القاسي
“من الواضح أنه يعرف شيئًا لا أعرفه”، فكرت في الكولونيل “لو أني عرفت ما يعرفه، لفهمت بالتأكيد“
يستقي تولستوي مشهد التعذيب القاسي في تلك القصة من خبرته بالحرب، وخاصة “حرب القرم” (1853-1856) التي شارك بها، كما يفعل في روايته الأشهر “الحرب والسلام” (1869)، وهو ينبذ العنف ويؤمن “بالمقاومة السلمية”، حيث تأثر باتجاه غاندي، ومارتن لوثر كنج، وغيرهما.
موت إيفان ايليتش
تحمل موت ايفان اليتش و تسع قصص رائعة ليف تولستوي pdf
في نحو الستين من عمره كتب تولستوي قصة طويلة، لا ينظر إليها عادة باعتبارها واحدة من أعماله الكبيرة، إذ لا يمكن أحداً أن يضاهيها بـ"الحرب والسلام"أو"أنا كارينينا"أو"البعث"، ومع هذا يمكن أن تقول عنها إنها عمل مهم بالمعنى نفسه الذي يقال فيه عادة إن الأعمال الثانوية للكتاب الكبار تكون اكثر قدرة عادة على كشف أفكارهم في شكل مباشر، أو على الأقل كشف أسرارهم الأدبية. ومن هنا، مثلاً، إن نقاداً كثراً يعتبرون"قشتمر"لنجيب محفوظ، رواية/مفتاح تساعد على فهم أسراره الأدبية، اكثر مما تفعل"الثلاثية"أو"الحرافيش"أو"بداية ونهاية". وطبعاً هذه مقاييس أدبية أكاديمية صرفة، لا تحاول أن تحلّ الأعمال الصغرى محل الأعمال الكبرى. ثم إن"موت ايفان ايليتش"لتولستوي ليست على أية حال"عملاً"صغيراً، إلا حين تقارن بشوامخ من طراز"الحرب والسلام".
> فـ"موت ايفان ايليتش"في حدّ ذاتها عمل كبير لتولستوي له مكانته. وإذا كان الكونت الروسي الكبير ذو النزعة الإنسانية قد اختار أن"يؤخر"كتابة هذا العمل حتى الربع الأخير من حياته، فما هذا إلا لأنه كان يرى في هذه الرواية ما هو اكثر من العمل الأدبي بكثير. وإذا كنا في مناسبات سابقة قد اطللنا على هذا العمل لتوستوي مركزين على بعده الأدبي والفني، فإن له أيضاً جانباًَ قد تتمكن نظرة ثانية إلى العمل من سبره، على ضوء الأفكار التي راحت تعمل لدى تولستوي خلال القسم الثاني من حياته، محوّلة إياه من أديب كبير إلى مصلح إنساني صاحب مذهب في العدالة الاجتماعية فتن في زمنه كثراً، بما فيهم مفكرنا النهضوي الكبير محمد عبده الذي راسل تولستوي زمناً، كما أثار غضب كثر آخرين من ضمنهم الكنيسة الرسمية.
> من هـنا يصح التعامل مع رواية"موت ايفان ايليتش"كعمل فكري، بمقدار ما يصح التعامل معها كعمل روائي. من الناحية الروائية يتناول هذا العمل شخص الموسر البورجوازي المنتمي إلى شريحة أثرياء المدن في روسيا نهاية القرن التاسع عشر، ايفان ايليتش. إن كل ما لدى هذا الرجل يتحدث عن النجاح وعن الحياة العادية في استقامتها التي يعيشها أفراد طبقته، مصرّين على أنانيتهم وضيق أفقهم وتفاهتهم ونفاقهم - وجملة من صفات أخرى يلصقها تولستوي بهم -. وإيفان ايليتش هذا، ليس أسوأ ولا أحسن من أفراد طبقته. وما كان يمكن لمصيره أن يكون أسوأ أو أحسن، خصوصاً انه اقترن بامرأة من الطبقة نفسها، وتعزز مركزه في وظيفة جيدة أسندت إليه في محكمة الاستئناف. حياة ايفان ايليتش العائلية لم تكن سعيدة، غير أن الرجل لم يبادر بالشكوى، بل صبر على كل ما يعيشه راضياً مكتفياً. ثم ذات يوم، وعلى طريق صعوده الاجتماعي والوظيفي المتواصل، يجد نفسه وقد نقل إلى منصب في منقطة ريفيه غير بعيدة من سانت بطرسبرغ. ولكن هناك، وفيما كان إيفان يركب بعض الستائر في البيت، يقع من على السلم فيحس ألماً في فخذه... في البداية لا يبالي بذلك الألم... غير أن الألم سرعان ما يتفاقم ما يرغم الرجل على ارتياد عيادات الأطباء واحداً بعد الآخر... لكن كل واحد من هؤلاء يشخص الحالة على مزاجه، من دون أن يقرّ لهم قرار. وهكذا من طبيب إلى آخر ومن تشخيص إلى آخر يبدأ فخذ ايفان بالاهتراء وتتزايد آلامه، فيقرر ذات لحظة أن يتوقف عن زيارة الأطباء واستشارتهم، مفضلاً الاكتفاء بتناول المخدرات كمسكنات. ولنا هنا أن نتخيّل مقدار ما سوف تزداد حال صاحبنا سوءاً، إلى درجة أن زوجته لا تعود تبالي بحاله، وأصدقاءه يسأمون الاهتمام به، ولا يجد من يقف إلى جانبه في نهاية الأمر سوى خادم عجوز، هو أصلاً فلاح من الريف يدعى غيراسيم.
> في البداية يقوم غيراسيم بالمهمة كوظيفة وعمل، لكنه بعد ذلك ينصرف بكل جوارحه إلى مساعدة سيّده وقد أشفق عليه من آلامه ومن انصراف الناس عنه. الآلام سيخففها غيراسيم إذاً، كما انه هو الذي سيخفف من وحدة ايفان ايليتش وعزلته. سيقوم على خدمته ليلاً ونهاراً، معتنياً به، محاوراً إياه، متشاركاً معه في حب البلاد والأرض.
> واضح هنا أن غيراسيم هذا، هو الشخصية المحورية والأساسية في رواية ليون تولستوي هذه: انه هنا يرمز إلى الشعب الروسي الطيب، الشعب الذي يتمسك بواجبه ولا يحيد عنه، ويقوم بما يتعيّن عليه القيام به، من دون أن يطلب شيئاً أو مكافأة لنفسه. إنه الأرض الطيبة المعطاء التي تعطي من دون أن تأخذ، وتشفي من دون أن تشكو.
> هنا، بالنسبة إلى تولستوي، بيت القصيد، ليس في هذا العمل الروائي الطيّب، بل في فكره ككل، إذ خلال تلك السنوات كان قد بدأ يتجسد في شكل نهائي ذلك الإيمان المطلق لصاحب"آنا كارينينا"بالأرض وبالإنسان الطيّب الذي هو ابن الطبيعة وابن الأرض وسيدهما. ففي ذلك الحين كان تولستوي قد بدأ يثور ثورته الفكرية الحادة على تفاهة الطبقات العليا في المجتمع من التي كانت قد بدأت تؤله، في شكل مرضي، الأفكار المتعلقة بالنجاح المادي والاجتماعي على حساب النجاح الروحي والفكري. وكان شعار تولستوي ومذهبه في ذلك الحين قد بدأ يتجسد في شكل جيد: عودوا إلى الأرض وروعتها، وعودوا إلى الإنسان الحقيقي الأصيل وبساطته. وذلكم هو، على أية حال، الملخص المنطقي لمذهب تولستوي ككل، المذهب الذي كلّفه منذ ذلك الحين غالياً. ونقول، منذ ذلك الحين، لأننا كنا قد أصبحنا في العام 1886، أي الحقبة التي أمعن فيها تولستوي سبراً للروح الروسية ولروح الإنسان الروسي. ومن هنا فإن الجانب الأهم في"موت ايفان ايليتش"إنما كان، ويبقى، المقارنة التي يندفع فيها القارئ راصداً الفوارق بين اندفاع غيراسيم وغيرته على إيفان ايليتش، وبين أبناء الطبقة التي ينتمي إليها هذا الأخير أصلاً... فهل يهمّ، بعد هذا، كثيراً، المجرى الحدثي الباقي في الرواية: هل يهم كل تلك التطورات التي تطرأ على شخصية ايفان ايليتش في أيامه الأخيرة، وبدؤه الحنو على عائلته، وتغيّر لهجته ولغته واهتماماته، قبل أن يصبح في نهاية الأمر مستعداً كل الاستعداد لاستقبال الموت؟ يهمّ هذا كله ولكن بمقدار ما نفهم دلالاته وندركها. فالحقيقة أن تبدلات ايليتش لا تحصل تحت وطأة المرض وتحت وطأة النهاية المحتمة، بل تحديداً - وهذا ما رمى تولستوي إلى قوله - تحت وطأة حوارات ايليتش مع غيراسيم ورصده تصرفاته. وبدء استعداده للعودة إلى الأرض، أمّ الطبيعة والشعب، كجزء مكون من علاقته بالكون.
> من هــنا يصــبح مــوت ايفان ايليــتــــش موتاً طقوسياً رمزياً: يصبح نوعاً من العودة إلى الأرض وإلى الجذور، بعد سأم طويل من القيم الجديدة المفروضة على حياة اجتماعية بائسة ومريضة. وبهذا يصحّ أن ننظر في نهاية الأمر إلى"موت ايفان ايليـــتش"بوصـــفها موقفاً فلسفياً وفكرياً، سيعبر عنه ليون تولســـتوي 1828 - 1910 أكثر وأكثر، في كتاباته، ولكن أكثر من هذا: في مواقـــفه الفكرية ومحاولاته الدؤوبة لخــلق مذهب روحي يرتبط بالطبيعة والإنســـان، وعودته نفسه إلى الأرض كفــعل ارتبـــاط بالجـــذور. وهـــذا كله نراه في هذه الرواية بأكثر مما نراه في الكثير من أعمال ليون تولســتوي، الذي يبقى، بعد هذا، واحداً من كبار الكتاب في تاريخ الأدب والفكر في القرنين الأخيرين.
http://www.arageek.com/2015/07/23/from-the-first-story-to-poker.html
اكتشف إيفان إيليلتش أن حياته النمطية البسيطة ليست سوى حياة سيئة … مريعة
بلغ الوجيه إيفان إيليتش في سلم القضاء مبلغه، يتعامل مع من حوله بتلقائية أقرب إلى القسوة والبرود، هو الإنسان النمطي الطموح الذي يسعى للأفضل، لديه زوجته وأولاده وكل شىء على ما يرام، حتى داهمه الموت البطيء بلا إنذار، فيكتشف القاضي المرموق خدعة عمره وأعمار كل البشر، الكل يحتضر .. الكل إلى زوال وانتهاء.
رواية مفعمة بتأملات صريحة للعملاق الروسي صاحب أنا كارنينا، نرى فيها تكالب البطل الأحمق خلف ما يفنى فيها، ففي لحظة واحدة أدرك أنه يفقد كل شيء، وأثناء احتضاره الطويل نرى كيف أهمله من حوله كأنه مات بالفعل، الزوجة والأولاد، كان يعاملهم كمجرد أسماء وأشياء في حياته، لم يعطهم شيئاً سوى وجوده الفارغ، فلم يمثل لهم موته شيئاً وتخففوا جميعاً من سيرته وحمله.
يموت إيفان تاركاً المتصارعين على منصبه، لم يواسيه سوى خادمه الريفي، وظل يعاني مرارة الرحيل بعدما عرف الحقيقة متأخراً، قصة صادمة عن الحياة والموت والطموح، والعبث الذي يبدو مسيطراً في آونة كثيرة على مجريات حياتنا النمطية السخيفة، بلا اعتبار لحقيقة الحياة ذاتها وماهيتها.
في نحو الستين من عمره كتب تولستوي قصة طويلة، لا ينظر إليها عادة باعتبارها واحدة من أعماله الكبيرة، إذ لا يمكن أحداً أن يضاهيها بـ"الحرب والسلام"أو"أنا كارينينا"أو"البعث"، ومع هذا يمكن أن تقول عنها إنها عمل مهم بالمعنى نفسه الذي يقال فيه عادة إن الأعمال الثانوية للكتاب الكبار تكون اكثر قدرة عادة على كشف أفكارهم في شكل مباشر، أو على الأقل كشف أسرارهم الأدبية. ومن هنا، مثلاً، إن نقاداً كثراً يعتبرون"قشتمر"لنجيب محفوظ، رواية/مفتاح تساعد على فهم أسراره الأدبية، اكثر مما تفعل"الثلاثية"أو"الحرافيش"أو"بداية ونهاية". وطبعاً هذه مقاييس أدبية أكاديمية صرفة، لا تحاول أن تحلّ الأعمال الصغرى محل الأعمال الكبرى. ثم إن"موت ايفان ايليتش"لتولستوي ليست على أية حال"عملاً"صغيراً، إلا حين تقارن بشوامخ من طراز"الحرب والسلام".
> فـ"موت ايفان ايليتش"في حدّ ذاتها عمل كبير لتولستوي له مكانته. وإذا كان الكونت الروسي الكبير ذو النزعة الإنسانية قد اختار أن"يؤخر"كتابة هذا العمل حتى الربع الأخير من حياته، فما هذا إلا لأنه كان يرى في هذه الرواية ما هو اكثر من العمل الأدبي بكثير. وإذا كنا في مناسبات سابقة قد اطللنا على هذا العمل لتوستوي مركزين على بعده الأدبي والفني، فإن له أيضاً جانباًَ قد تتمكن نظرة ثانية إلى العمل من سبره، على ضوء الأفكار التي راحت تعمل لدى تولستوي خلال القسم الثاني من حياته، محوّلة إياه من أديب كبير إلى مصلح إنساني صاحب مذهب في العدالة الاجتماعية فتن في زمنه كثراً، بما فيهم مفكرنا النهضوي الكبير محمد عبده الذي راسل تولستوي زمناً، كما أثار غضب كثر آخرين من ضمنهم الكنيسة الرسمية.
> من هـنا يصح التعامل مع رواية"موت ايفان ايليتش"كعمل فكري، بمقدار ما يصح التعامل معها كعمل روائي. من الناحية الروائية يتناول هذا العمل شخص الموسر البورجوازي المنتمي إلى شريحة أثرياء المدن في روسيا نهاية القرن التاسع عشر، ايفان ايليتش. إن كل ما لدى هذا الرجل يتحدث عن النجاح وعن الحياة العادية في استقامتها التي يعيشها أفراد طبقته، مصرّين على أنانيتهم وضيق أفقهم وتفاهتهم ونفاقهم - وجملة من صفات أخرى يلصقها تولستوي بهم -. وإيفان ايليتش هذا، ليس أسوأ ولا أحسن من أفراد طبقته. وما كان يمكن لمصيره أن يكون أسوأ أو أحسن، خصوصاً انه اقترن بامرأة من الطبقة نفسها، وتعزز مركزه في وظيفة جيدة أسندت إليه في محكمة الاستئناف. حياة ايفان ايليتش العائلية لم تكن سعيدة، غير أن الرجل لم يبادر بالشكوى، بل صبر على كل ما يعيشه راضياً مكتفياً. ثم ذات يوم، وعلى طريق صعوده الاجتماعي والوظيفي المتواصل، يجد نفسه وقد نقل إلى منصب في منقطة ريفيه غير بعيدة من سانت بطرسبرغ. ولكن هناك، وفيما كان إيفان يركب بعض الستائر في البيت، يقع من على السلم فيحس ألماً في فخذه... في البداية لا يبالي بذلك الألم... غير أن الألم سرعان ما يتفاقم ما يرغم الرجل على ارتياد عيادات الأطباء واحداً بعد الآخر... لكن كل واحد من هؤلاء يشخص الحالة على مزاجه، من دون أن يقرّ لهم قرار. وهكذا من طبيب إلى آخر ومن تشخيص إلى آخر يبدأ فخذ ايفان بالاهتراء وتتزايد آلامه، فيقرر ذات لحظة أن يتوقف عن زيارة الأطباء واستشارتهم، مفضلاً الاكتفاء بتناول المخدرات كمسكنات. ولنا هنا أن نتخيّل مقدار ما سوف تزداد حال صاحبنا سوءاً، إلى درجة أن زوجته لا تعود تبالي بحاله، وأصدقاءه يسأمون الاهتمام به، ولا يجد من يقف إلى جانبه في نهاية الأمر سوى خادم عجوز، هو أصلاً فلاح من الريف يدعى غيراسيم.
> في البداية يقوم غيراسيم بالمهمة كوظيفة وعمل، لكنه بعد ذلك ينصرف بكل جوارحه إلى مساعدة سيّده وقد أشفق عليه من آلامه ومن انصراف الناس عنه. الآلام سيخففها غيراسيم إذاً، كما انه هو الذي سيخفف من وحدة ايفان ايليتش وعزلته. سيقوم على خدمته ليلاً ونهاراً، معتنياً به، محاوراً إياه، متشاركاً معه في حب البلاد والأرض.
> واضح هنا أن غيراسيم هذا، هو الشخصية المحورية والأساسية في رواية ليون تولستوي هذه: انه هنا يرمز إلى الشعب الروسي الطيب، الشعب الذي يتمسك بواجبه ولا يحيد عنه، ويقوم بما يتعيّن عليه القيام به، من دون أن يطلب شيئاً أو مكافأة لنفسه. إنه الأرض الطيبة المعطاء التي تعطي من دون أن تأخذ، وتشفي من دون أن تشكو.
> هنا، بالنسبة إلى تولستوي، بيت القصيد، ليس في هذا العمل الروائي الطيّب، بل في فكره ككل، إذ خلال تلك السنوات كان قد بدأ يتجسد في شكل نهائي ذلك الإيمان المطلق لصاحب"آنا كارينينا"بالأرض وبالإنسان الطيّب الذي هو ابن الطبيعة وابن الأرض وسيدهما. ففي ذلك الحين كان تولستوي قد بدأ يثور ثورته الفكرية الحادة على تفاهة الطبقات العليا في المجتمع من التي كانت قد بدأت تؤله، في شكل مرضي، الأفكار المتعلقة بالنجاح المادي والاجتماعي على حساب النجاح الروحي والفكري. وكان شعار تولستوي ومذهبه في ذلك الحين قد بدأ يتجسد في شكل جيد: عودوا إلى الأرض وروعتها، وعودوا إلى الإنسان الحقيقي الأصيل وبساطته. وذلكم هو، على أية حال، الملخص المنطقي لمذهب تولستوي ككل، المذهب الذي كلّفه منذ ذلك الحين غالياً. ونقول، منذ ذلك الحين، لأننا كنا قد أصبحنا في العام 1886، أي الحقبة التي أمعن فيها تولستوي سبراً للروح الروسية ولروح الإنسان الروسي. ومن هنا فإن الجانب الأهم في"موت ايفان ايليتش"إنما كان، ويبقى، المقارنة التي يندفع فيها القارئ راصداً الفوارق بين اندفاع غيراسيم وغيرته على إيفان ايليتش، وبين أبناء الطبقة التي ينتمي إليها هذا الأخير أصلاً... فهل يهمّ، بعد هذا، كثيراً، المجرى الحدثي الباقي في الرواية: هل يهم كل تلك التطورات التي تطرأ على شخصية ايفان ايليتش في أيامه الأخيرة، وبدؤه الحنو على عائلته، وتغيّر لهجته ولغته واهتماماته، قبل أن يصبح في نهاية الأمر مستعداً كل الاستعداد لاستقبال الموت؟ يهمّ هذا كله ولكن بمقدار ما نفهم دلالاته وندركها. فالحقيقة أن تبدلات ايليتش لا تحصل تحت وطأة المرض وتحت وطأة النهاية المحتمة، بل تحديداً - وهذا ما رمى تولستوي إلى قوله - تحت وطأة حوارات ايليتش مع غيراسيم ورصده تصرفاته. وبدء استعداده للعودة إلى الأرض، أمّ الطبيعة والشعب، كجزء مكون من علاقته بالكون.
> من هــنا يصــبح مــوت ايفان ايليــتــــش موتاً طقوسياً رمزياً: يصبح نوعاً من العودة إلى الأرض وإلى الجذور، بعد سأم طويل من القيم الجديدة المفروضة على حياة اجتماعية بائسة ومريضة. وبهذا يصحّ أن ننظر في نهاية الأمر إلى"موت ايفان ايليـــتش"بوصـــفها موقفاً فلسفياً وفكرياً، سيعبر عنه ليون تولســـتوي 1828 - 1910 أكثر وأكثر، في كتاباته، ولكن أكثر من هذا: في مواقـــفه الفكرية ومحاولاته الدؤوبة لخــلق مذهب روحي يرتبط بالطبيعة والإنســـان، وعودته نفسه إلى الأرض كفــعل ارتبـــاط بالجـــذور. وهـــذا كله نراه في هذه الرواية بأكثر مما نراه في الكثير من أعمال ليون تولســتوي، الذي يبقى، بعد هذا، واحداً من كبار الكتاب في تاريخ الأدب والفكر في القرنين الأخيرين.
> من هـنا يصح التعامل مع رواية"موت ايفان ايليتش"كعمل فكري، بمقدار ما يصح التعامل معها كعمل روائي. من الناحية الروائية يتناول هذا العمل شخص الموسر البورجوازي المنتمي إلى شريحة أثرياء المدن في روسيا نهاية القرن التاسع عشر، ايفان ايليتش. إن كل ما لدى هذا الرجل يتحدث عن النجاح وعن الحياة العادية في استقامتها التي يعيشها أفراد طبقته، مصرّين على أنانيتهم وضيق أفقهم وتفاهتهم ونفاقهم - وجملة من صفات أخرى يلصقها تولستوي بهم -. وإيفان ايليتش هذا، ليس أسوأ ولا أحسن من أفراد طبقته. وما كان يمكن لمصيره أن يكون أسوأ أو أحسن، خصوصاً انه اقترن بامرأة من الطبقة نفسها، وتعزز مركزه في وظيفة جيدة أسندت إليه في محكمة الاستئناف. حياة ايفان ايليتش العائلية لم تكن سعيدة، غير أن الرجل لم يبادر بالشكوى، بل صبر على كل ما يعيشه راضياً مكتفياً. ثم ذات يوم، وعلى طريق صعوده الاجتماعي والوظيفي المتواصل، يجد نفسه وقد نقل إلى منصب في منقطة ريفيه غير بعيدة من سانت بطرسبرغ. ولكن هناك، وفيما كان إيفان يركب بعض الستائر في البيت، يقع من على السلم فيحس ألماً في فخذه... في البداية لا يبالي بذلك الألم... غير أن الألم سرعان ما يتفاقم ما يرغم الرجل على ارتياد عيادات الأطباء واحداً بعد الآخر... لكن كل واحد من هؤلاء يشخص الحالة على مزاجه، من دون أن يقرّ لهم قرار. وهكذا من طبيب إلى آخر ومن تشخيص إلى آخر يبدأ فخذ ايفان بالاهتراء وتتزايد آلامه، فيقرر ذات لحظة أن يتوقف عن زيارة الأطباء واستشارتهم، مفضلاً الاكتفاء بتناول المخدرات كمسكنات. ولنا هنا أن نتخيّل مقدار ما سوف تزداد حال صاحبنا سوءاً، إلى درجة أن زوجته لا تعود تبالي بحاله، وأصدقاءه يسأمون الاهتمام به، ولا يجد من يقف إلى جانبه في نهاية الأمر سوى خادم عجوز، هو أصلاً فلاح من الريف يدعى غيراسيم.
> في البداية يقوم غيراسيم بالمهمة كوظيفة وعمل، لكنه بعد ذلك ينصرف بكل جوارحه إلى مساعدة سيّده وقد أشفق عليه من آلامه ومن انصراف الناس عنه. الآلام سيخففها غيراسيم إذاً، كما انه هو الذي سيخفف من وحدة ايفان ايليتش وعزلته. سيقوم على خدمته ليلاً ونهاراً، معتنياً به، محاوراً إياه، متشاركاً معه في حب البلاد والأرض.
> واضح هنا أن غيراسيم هذا، هو الشخصية المحورية والأساسية في رواية ليون تولستوي هذه: انه هنا يرمز إلى الشعب الروسي الطيب، الشعب الذي يتمسك بواجبه ولا يحيد عنه، ويقوم بما يتعيّن عليه القيام به، من دون أن يطلب شيئاً أو مكافأة لنفسه. إنه الأرض الطيبة المعطاء التي تعطي من دون أن تأخذ، وتشفي من دون أن تشكو.
> هنا، بالنسبة إلى تولستوي، بيت القصيد، ليس في هذا العمل الروائي الطيّب، بل في فكره ككل، إذ خلال تلك السنوات كان قد بدأ يتجسد في شكل نهائي ذلك الإيمان المطلق لصاحب"آنا كارينينا"بالأرض وبالإنسان الطيّب الذي هو ابن الطبيعة وابن الأرض وسيدهما. ففي ذلك الحين كان تولستوي قد بدأ يثور ثورته الفكرية الحادة على تفاهة الطبقات العليا في المجتمع من التي كانت قد بدأت تؤله، في شكل مرضي، الأفكار المتعلقة بالنجاح المادي والاجتماعي على حساب النجاح الروحي والفكري. وكان شعار تولستوي ومذهبه في ذلك الحين قد بدأ يتجسد في شكل جيد: عودوا إلى الأرض وروعتها، وعودوا إلى الإنسان الحقيقي الأصيل وبساطته. وذلكم هو، على أية حال، الملخص المنطقي لمذهب تولستوي ككل، المذهب الذي كلّفه منذ ذلك الحين غالياً. ونقول، منذ ذلك الحين، لأننا كنا قد أصبحنا في العام 1886، أي الحقبة التي أمعن فيها تولستوي سبراً للروح الروسية ولروح الإنسان الروسي. ومن هنا فإن الجانب الأهم في"موت ايفان ايليتش"إنما كان، ويبقى، المقارنة التي يندفع فيها القارئ راصداً الفوارق بين اندفاع غيراسيم وغيرته على إيفان ايليتش، وبين أبناء الطبقة التي ينتمي إليها هذا الأخير أصلاً... فهل يهمّ، بعد هذا، كثيراً، المجرى الحدثي الباقي في الرواية: هل يهم كل تلك التطورات التي تطرأ على شخصية ايفان ايليتش في أيامه الأخيرة، وبدؤه الحنو على عائلته، وتغيّر لهجته ولغته واهتماماته، قبل أن يصبح في نهاية الأمر مستعداً كل الاستعداد لاستقبال الموت؟ يهمّ هذا كله ولكن بمقدار ما نفهم دلالاته وندركها. فالحقيقة أن تبدلات ايليتش لا تحصل تحت وطأة المرض وتحت وطأة النهاية المحتمة، بل تحديداً - وهذا ما رمى تولستوي إلى قوله - تحت وطأة حوارات ايليتش مع غيراسيم ورصده تصرفاته. وبدء استعداده للعودة إلى الأرض، أمّ الطبيعة والشعب، كجزء مكون من علاقته بالكون.
> من هــنا يصــبح مــوت ايفان ايليــتــــش موتاً طقوسياً رمزياً: يصبح نوعاً من العودة إلى الأرض وإلى الجذور، بعد سأم طويل من القيم الجديدة المفروضة على حياة اجتماعية بائسة ومريضة. وبهذا يصحّ أن ننظر في نهاية الأمر إلى"موت ايفان ايليـــتش"بوصـــفها موقفاً فلسفياً وفكرياً، سيعبر عنه ليون تولســـتوي 1828 - 1910 أكثر وأكثر، في كتاباته، ولكن أكثر من هذا: في مواقـــفه الفكرية ومحاولاته الدؤوبة لخــلق مذهب روحي يرتبط بالطبيعة والإنســـان، وعودته نفسه إلى الأرض كفــعل ارتبـــاط بالجـــذور. وهـــذا كله نراه في هذه الرواية بأكثر مما نراه في الكثير من أعمال ليون تولســتوي، الذي يبقى، بعد هذا، واحداً من كبار الكتاب في تاريخ الأدب والفكر في القرنين الأخيرين.
اكتشف إيفان إيليلتش أن حياته النمطية البسيطة ليست سوى حياة سيئة … مريعة
بلغ الوجيه إيفان إيليتش في سلم القضاء مبلغه، يتعامل مع من حوله بتلقائية أقرب إلى القسوة والبرود، هو الإنسان النمطي الطموح الذي يسعى للأفضل، لديه زوجته وأولاده وكل شىء على ما يرام، حتى داهمه الموت البطيء بلا إنذار، فيكتشف القاضي المرموق خدعة عمره وأعمار كل البشر، الكل يحتضر .. الكل إلى زوال وانتهاء.
رواية مفعمة بتأملات صريحة للعملاق الروسي صاحب أنا كارنينا، نرى فيها تكالب البطل الأحمق خلف ما يفنى فيها، ففي لحظة واحدة أدرك أنه يفقد كل شيء، وأثناء احتضاره الطويل نرى كيف أهمله من حوله كأنه مات بالفعل، الزوجة والأولاد، كان يعاملهم كمجرد أسماء وأشياء في حياته، لم يعطهم شيئاً سوى وجوده الفارغ، فلم يمثل لهم موته شيئاً وتخففوا جميعاً من سيرته وحمله.
يموت إيفان تاركاً المتصارعين على منصبه، لم يواسيه سوى خادمه الريفي، وظل يعاني مرارة الرحيل بعدما عرف الحقيقة متأخراً، قصة صادمة عن الحياة والموت والطموح، والعبث الذي يبدو مسيطراً في آونة كثيرة على مجريات حياتنا النمطية السخيفة، بلا اعتبار لحقيقة الحياة ذاتها وماهيتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق