إليوشا - قصة قصيرة- ليف تولستوي - ترجمتي ..من مجموعة : موت إيفان ايليتش" الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة- آفاق عالمية - سلسلة ال 100 كتاب
إليوشا الإناء
إليوشا أصغر إخوته، وهم يدعونه "الإناء"...أرسلته أمه ذات مرة بوعاء لبن لزوجة الشماس فتعثر بشيء ما وكسر الوعاء، ضربته أمه وسخر منه الأطفال. ومنذ ذلك الوقت أطلقت عليه لقب (الإناء ) . إليوشا كان نحيفا صغير الجسم بأذنين كالجناحين وأنف ضخمة . " إليوشا له أنف تشبه كلبا على التل " هكذا اعتاد الأولاد أن يقولوا من ورائه . ذهب إليوشا إلى مدرسة القرية ولم يكن طالبا مُجدا , بالإضافة لقلة الوقت المخصص للتعليم . فأخوه الأكبر يعمل فى المدينة لدى تاجر, وعلى إليوشا مساعدة الأب منذ طفولته المبكرة . منذ أن كان في السادسة لا أكثر اعتاد أن يذهب مع الصغيرات لمتابعة الأبقار والماشية فى المرعى , وبعد فترة قصيرة كان يعتني بالخيول ليل نهار.فى سن الثانية عشرة كان قد اعتاد على حرث الأرض وقيادة العربة الكارو.كانت لديه الموهبة لكن لم تكن لديه القوة الكافية .كان دائما مرحا وعندما كان الأولاد يسخرون منه كان إما يضحك أو يبقى صامتا . عندما يوبخه والده يقف صامتا ويستمع بانتباه وبمجرد أن ينتهى التوبيخ يبتسم ويذهب إلى عمله . كان إليوشا قد بلغ التاسعة عشرة عندما دخل أخوه الجندية . لذلك أرسله الأب إلى التاجر بدلا من أخيه كحمال . أعطوه حذاء أخيه القديم، ومعطف أبيه وقبعته القديمتين . وأرسل إلى المدينة . فرح إليوشا بملابسه لكن التاجر لم يسره شكله .
"اعتقدت أنك ستأتى لى برجل بدلا من سيميون " قالها وهو يتفحص إليوشا :" فإذا بك تحضر لي هذا ! فما الفائدة من ورائه؟"
" إنه يستطيع القيام بكل شيء ؛ يعتنى بالخيول ويقود العربة : إنه صالح للعمل .يبدو نحيفا إلى حد ما, لكنه قوي تماما .ولديه الرغبة تماما. "
" نعم , يبدو كذلك . حسنا , سنرى ماذا يمكننا أن نفعل به"
وهكذا بقي إليوشا مع التاجر.
لم تكن أسرته كبيرة ؛ كانت تتألف من التاجر وزوجته, والدته المسنة : ابن متزوج لم يتعلم جيدا يعمل مع والده , ابن آخر متعلم أنهى تعليمه فى المدرسة والتحق بالجامعة لكنه طًرد .. وكان يعيش فى المنزل ، وابنة ماتزال في المدرسة.
لم يتعودوا على إليوشا فى البداية . كان شكله فظا وملبسه رديء كان بالنسبة لهم لا أهمية له , لكنهم سرعان ما تعودوا عليه . وعمل إليوشا حتى أفضل من أخيه ؛ كان لديه الاستعداد دائما. كانوا يرسلونه في كل المهام لكنه كان يؤديها كلها بترحيب وبسرعة، ذاهبا من مهمة إلى غيرها ثم لأخرى دون توقف . وهنا , مثلما يحدث في المنزل ألقي كل العمل على عاتقه . كلما قام بالكثير تم تكليفه بأعمال أكثر .سيدته ،أمه العجوز ,الابن . الابنة الموظف, والطباخه كلهم كانوا يأمرونه ويرسلونه من مكان لآخر .
" إليوشا , فلتفعل هذا ! إليوشا فلتفعل ذاك ! ماذا! هل نسيت ,يا إليوشا ؟ فلتحرص على ألا تنسى يا إليوشا! " كانت تُسمع هذه الكلمات من الصباح وحتى الليل . إليوشا يجرى هنا و يعتني بهذا وذاك ولا ينسى شيئا , ويجد الوقت لكل شيء ودائما مبتهج .
.
تمزق حذاء أخيه بسرعة , وبخه سيده على ملابسه البالية و حذائه الذي تبرز منه أصابعه . أمر بشراء بحذاء جديد له من السوق . فرح اليوشا بحذائه الجديد , لكنه كان يغضب عندما يؤلمه إصبعه فى نهاية يوم من الأعمال الشاقة. ثم إنه كان يخاف من غضب أبيه عندما يأتى ليأخذ الراتب و يعرف أن السيد قد خصم جزءا منه للحذاء .
و فى الشتاء, كان إليوشا معتادا على النهوض قبل الفجر, كان يشق الأخشاب ، يكنس الفناء, يطعم الأبقار والخيول , و يشعل الموقد , ينظف الأحذية و يعد السماور ( آنية الشاى ) ويلمعها ؛ أو يرسله الموظف لشراء بعض اللوازم , أو تجعله الطباخة يعجن الخبز وينظف القدور . ثم يتم إرساله إلى المدينة لبعض المهام المختلفة , ليحضر الابنة من المدرسة , أو لشراء بعض زيت الزيتون للأم العجوز " لماذا- بحق الشيطان تتأخر هكذا ؟يقولها له واحد, ثم الآخر . لماذا تذهبون ؟ فإليوشا يمكنه أن يذهب . إليوشا!إليوشا!.. ويجرى إليوشا هنا وهناك . يتناول فطوره خطفا أثناء عمله , ونادرا ما نجح في تناول عشائه فى الوقت المناسب . وكانت الطباخة معتادة على توبيخه دائما على تأخره, لكنها كانت حزينة من أجله على أية حال , وتحتفظ له بعض الأكل الساخن لغدائه و عشائه .
وفي الأجازات يكون العمل أكثر من ذي قبل لكن إليوشا كان يحب الأجازات لأنه يأخذ البقشيش من الجميع . ليس كثيرا فى الحقيقة لكنه يصل إلى 60 كوبك ( نقوده الخاصة ) ذلك أن إليوشا لم يبصر أبدا راتبه. فقد اعتاد والده أن يأتي ويأخذه من التاجر و أيضا يوبخه على أنه أبلى حذاءه .
وعندما ادخر 4 روبلات , حسب نصيحة الطباخة اشترى سترة تريكو حمراء لنفسه, وكان سعيدا للغاية عندما ارتداها , إلى حد أنه لم يستطع إغلاق فمه من الفرحة . إليوشا لم يكن ثرثارا ؛إذا ما تحدث أصلا, فهو يتحدث فجأة وهو يدير رأسه .وعندما يؤمر بعمل شيء ما أو يُسأل إن كان يمكنه القيام به, كان يقول نعم بلا أدنى تردد , ويشرع في العمل فى الحال .
لم يعرف إليوشا أية صلاة ونسي ما علمته إياه أمه . لكنه كان يصلي نفس الصلاة كل صباح و كل مساء يصلى بيديه وهو يرسم شارة الصليب على نفسه .
وقد عاش على هذا النحو لعام ونصف تقريبا وقرابة نهاية العام الثانى حدث له شيء مذهل . اكتشف ذات يوم – في استغراب بالغ- أنه بالإضافة إلى العلاقة النفعية بين الناس فهناك أيضاعلاقة أخرى, علاقة خصوصية ذات سمة بالغة الاختلاف. بدلا من هذا الرجل المطلوب لتنظيف الأحذية , وإرساله إلى المشاوير وسرج الأحصنة , فإنه ليس مرغوبا من أجل أي خدمة من هذه الخدمات أبدا ,بل ثمة شخص آخر يريد خدمته ويحبه . فجأة أحس إليوشا أنه مثل هذا الرجل .
اكتشف هذا فى الطباخة يوستينا , كانت صغيرة وبلا أم أو أب وتقوم بأعمال شاقة مثل إليوشا . شعر لأول مرة في حياته أنه هو- وليس خدماته, بل هو بنفسه- كان ضروريا لإنسان آخر . فحينما كانت أمه تحزن من أجله , لم يكن ليلحظ ذلك. كان ذلك يبدو له أمرا طبيعيا تماما, كأنه كان يشعر بالحزن على نفسه . لكن هنا كانت يوستينا شخصا غريباتماما, و يحزن من أجله . كانت تحتفظ له ببعض الحساء الساخن وتجلس وهي تنظر إليه , مسندة ذقنها على ذراعه العارية ,لأنه يشمر أكمامه عندما يأكل . وعندما ينظر ‘إليها تضحك ويضحك هو أيضا ...
كان ذلك شيئا جديدا, وغريبا بالنسبة له إلى حد أن أخاف إليوشا . خاف أن يتدخل ذلك فى عمله . لكنه كان سعيدا . و مع ذلك عندما يرى بنطلونه الذى أصلحته له يوستينا كان يهز رأسه ويبتسم . وكان يفكر فيها كثيرا أثناء عمله , أو عندما يجري لأداء مهمة ما " بنت طيبة , يوستينا !" كان يتعجب أحيانا .
كانت يوستينا معتادة على مساعدته قدر استطاعتها, وكان يساعدها. حكت له كل شيء عن حياتها ؛ كيف فقدت أبويها , كيف تبنتها عمتها ووجدت لها مكانا فى المدينة : وكيف حاول ابن التاجر أن يأخذ حريته معها وكيف أنها صدته . كانت تحب أن تتكلم وأحب إليوشا أن يستمع لها . لقد سمع أن الفلاحين الذين يأتون للعمل فى المدينة يتزوجون غالبا من خادمات . وفى إحدى المناسبات سألته إن كان والداه يرغبان فى تزويجه قريبا . فأجاب بأنه لا يعرف , وأنه لا يرغب الزواج من إحدى فتيات القرية .
" هل أعجبت بواحدة من قبل,إذن ؟"
" أريد الزواج منك , إذا قبلتِ."
" أنا منسجمة معك , يا إليوشا "الإناء " , وقد وجدت لسانك ,أليس كذلك؟" صاحت وهي تضربه على ظهره بمنشفة في يدها ." ولمَ لا ؟"
في شروفيتايد جاء والد إليوشا ليأخذ الراتب . ووصل إلى مسمع زوجة التاجر أن إليوشا يريد الزواج بيوستينا, لكنها لم توافق على ذلك " ما الفائدة منها وهى تحمل طفلا ؟" فكرت ثم أخبرت زوجها .
أعطى التاجر الرجل العجوز راتب إليوشا.
" كيف حال الفتى معك ؟" سأل " "قلت لك أنه راغب".
" حسنا , الأمور تسير بخير , إلا من بعض الهراء الذي يدور في رأسه , فهو يريد الزواج من طباختنا . وأنا لا أوافق على زواج الخدم . لن نريدهما فى منزلنا ".
" حسنا , الآن , من كان يظن أن هذا الأحر سيفكر في أمر كهذا ؟" تعجب الرجل العجوز " لكن لا تقلق . فسوف أحل هذا الموضوع قريبا."
دخل المطبخ وجلس إلى المائدة ينتظر ابنه . كان إليوشا بالخارج في أحد المشاوير , وجاء مقطوع الأنفاس.
" اعتقدت أن عندك بعض العقل ؛لكن ما هذا الذي يدور برأسك ؟ " بدأ والده الكلام ."
" أنا ؟ لاشيء ."
" كيف , لاشيء ؟ قد أخبروني أنك تريد الزواج . سوف ستتزوج لكن فى الوقت المناسب . سأزوجك من زوجة لائقة ,وليس من إحدى عاهرات المدينة ."
تحدث الأب وتحدث , بينما وقف إليوشا ساكنا يتنهد . عندما انتهى الأب من الحديث , ابتسم إليوشا .
" وهو كذلك , سألغي هذا الأمر ."
" وهذا هو العقل ."
عندما انفرد بيوستينا أخبرها بما قاله والده .( كانت قد سمعت الكلام عبر الباب )
" إنه ليس أمرا جيدا ؛ لا يمكن لهذا أن ينتهي . هل تسمع ؟ لقد كان غاضبا .. لن يحدث هذا مهما بلغ الثمن "
بكت يوستينا , خبأت وجهها فى المريلة .
هز إليوشا رأسه.
" ماذا نفعل ؟ لابد أن ننفذ ما قيل لنا."
" حسنا , هل ستكف عن هذا الهراء , كما قال والدك ؟ قالت سيدته بينما كان يهيئ الستائر فى المساء .
" بالتأكيد سنفعل " رد إليوشا بابتسامة , ثم انفجر فى البكاء .
منذ ذلك اليوم استمر إليوشا فى عمله كالمعتاد ولم يتحدث مع يوستينا عن زواجهما وذات يوم طلب الكاتب منه أن يزيل الثلج من السطح , صعد إليوشا صعد للسطح وأزال كل الثلج ؛ وبينما كان يجمع بعض كتل الثلج من المزراب انزلقت قدمه وسقط . لسوء حظه لم يسقط على الثلج , بل سقط على قطعة حديد على الباب . جرت يوستينا عليه مع ابنة التاجر ." هل أًصبت يا إليوشا ؟"" آه ! لا , لاشيء "لكنه لم يستطع أن يرفع نفسه كلما حاول , وبدأ في الابتسام .أدخلوه إلى الكوخ . وصل الطبيب وفحصه , سأله عن مكان الألم ." أشعر أنه فى كل جسمى ,لكن لا يهم . أخشى أن يتضايق سيدي . لابد أن تخبروا أبى "رقد إليوشا يومين فى السرير , وفى اليوم الثالث أرسلوا إلى القس .سألته يوستينا :" هل حقا ستموت ؟"" بالطبع سأموت, فلا يمكن أن نعيش إلى الأبد . فلابد أن نرحل عندما يحين الوقت " تكلم إليوشا بسرعة كعادته . " شكرا , يوستينا لقد كنت طيبة معي . كم هو شيء سعيد إذ لم يسمحوا لنا بالزواج ! ماذا كان سيحدث لنا الآن؟ إنه أفضل الآن ."حين جاءالقس , صلى مع فرقته وبقلبه ." مثلما كنت هنا تطيع ولم تؤذ أحدا , ستكون هناك بخير ," كانت تلك الفكرةالرئيسية.تحدث قليلا جدا ؛ فقط قال أنه عطشان , وبدا أنه مندهش من شيء ما .رقد مندهشا,ثم تمدد, ومات .
http://alketaba.com/index.php/2013-10-30-09-53-50/item/4980-2015-11-29-11-56-31.html
لعل مفتاح عبقرية الروائى الروسى الفذ ليف تولستوى (وربما ينطبق ذلك أيضا كبار المبدعين الروس من ديستوفيسكى الى تشيكوف)، أنه كان مزيجا مدهشا بين المفكر والفنان، لديه ما يقول من تأملات وأفكار، ولديه أسئلة تشغله وتؤرقه، ولكنه يعرف كيف يطرح ذلك بفن، ويدرك أن أفضل ما يفعله لخدمة فكرته، أن يخلص أضعافا مضاعفة للفن الذى يكتبه.
يتضح هذا التمكن الفنى فى استخدام مادة ضخمة تنتج عددا ضخما من الصفحات كما فى روايتى "الحرب والسلام" ، و"آنا كارينينا"، مثلما يتضح كذلك فى العمل على مادة محدودة تنتج رواية قصيرة (نوفيلاّ) من عيون الأدب العالمى هى "موت إيفان إيليتش" الذى صدرت ضمن المائة كتاب فى سلسلة آفاق عالمية، التى تصدرها هيئة قصور الثقافة المصرية ( العدد رقم 13). هذه السلسلة من أهم وأفضل ما يصدر من ترجمات لأبرز الأعمال الأدبية العالمية فى مصر، وقد ترجمت رواية تولستوى وقدمت لها مها جمال، ولأن الرواية قصيرة بالفعل، ولا تتجاوز صفحاتها 95 صفحة من القطع الصغير، فقد أضيفت الى الطبعة مجموعة من قصص تولستوى القصيرة البديعة، والتى لا ينحاز فيها إلا الى الإنسان، ومرة أخرى يبدو الفنان عملاقا بالذات عندما يطوع أفكارا صعبة، ليصوغ منها تمثالا ضخما، أو عملا نحتيا صغيرا، أو حتى قطعة من المنمنمات، كلها قوالب يمتلكها، ولا يخضع إلا لحرفة السرد عندما يكتبها، أما عندما يريد أن يفكر بصوت أعلى، فإن تولستوى كان يلجأ الى الكتابة المباشرة، التى تتيح له أن يشرح وينظّر ويسأل بشكل صريح، هكذا فعل مثلا فى كتابه الشهير :" ما الفن؟" ، وفى الكثير من تأملاته المكتوبة.
الموت هو محور رواية "موت إيفان إيليتش" الكبير. ليس الحدث نفسه الذى قد لايستغرق ثوان معدودات، يعود بعدها الإنسان جسدا بلا روح، ولكن ما يفعله فينا هذا الحدث الذى لا استثناء فيه. تولستوى يعمل هنا فى إطار ثلاثة أشهر هى الفترة ما بين إصابة إيفان إيليتش قاضى المحكمة، وموظف الدولة الكبير، بآلام مفاجئة فى جنبه، وبين لحظة وفاته. لا يغادر تولستوى تلك الأشهر الحاسمة إلا ليبدأ روايته بجنازة إيفان، ثم يقدم لنا فى صفحات قليلة تاريخ إيفان الوظيفى قبل المرض، فيما عدا ذلك، فإن الرحلة فى جوهرها داخل عقل رجل يقترب من الموت باليأس والألم، ويبتعد عنه بالدواء والأمل، الموت هو بطل الرواية الحقيقى الذى يلوح فى اسمها، وفى افتتاحية الجنازة، وفى النهاية أيضا :" لقد انتهى!"، قالها شخص ما بجواره". سمع تلك الكلمات، ورددها داخل روحه. "انتهى الموت"، قال لنفسه، "لم يعد موجودا!". . سحب نفساً، وفى منتصف الشهيق، تصلّب، مات. "
موت إيفان لم يكن بالنسبة لزملائه القضاة إلا فرصة لكى يحلم بعضهم بأن يحتلوا منصبه، لكى يزيد دخلهم، وفى الجنازة، تسأل الزوجة القاضى زميل إيفان عن إمكانية زيادة المعاش، الأحياء عموما يتعاملون مع موت الآخرين بأنه أمر بعيد عنهم، عندما تسمع خبر وفاة شخص ما، فإن الحزن يقترن بفرحة النجاة، لإنه هو الذى مات، أما نحن فما زلنا أحياء. هذه الفكرة يكررها تولستوى مستعينا بقدرته الفذة على تحليل النفس البشرية، ولكن ماذا سيفعل انتظار الموت فى إيفان الموظف العمومى، والذى يصفه وكأنه يصف ملايين غيره بقوله :" كانت حياة إيفان إيليتش بالغة البساطة والعادية، ولهذا كانت بالغة الفظاعة" .
إيفان نموذج لطبقة الموظفين، والده كان عضوا بالمجلس الإستشارى الزائد عن الحاجة فى مؤسسة زائدة عن الحاجة، ولكن إيفان امتلك طموحا أكبر، فبعد حصوله على شهادة القانون، بدأ المشوار متأهلا للدرجة العاشرة للخدمة المدنية، والتحق بمكتب حاكم إحدى المقاطعات، فى مكتب الخدمات الخاصة، ثم انتقل الى العمل القضائى، فأصبح قاضيا للتحقيق، ثم وكيلا للنيابة، ثم صار قاضيا من أعضاء المحكمة، وفى كل وظيفة، حاول إيفان أن يفصل بين حياته الشخصية وعمله الرسمى، ولكن ظلت علاقته الدائمة بالأوراق المكتوبة، أو بورق اللعب، لم يكن يجد وسيلة للتسلية سوى فى لعب الورق.
ومثل أى صاحب منصب تزوج، ثم أنجب أولادا لم يبق منهم إلا فتاة فى سن الزواج، خطبت لابن قاض مرموق، وصبى ما زال فى مرحلة الدراسة، ومثل أى موظف كبير استأجر بيتا وخدما، وقضى وقتا طويلا فى تجهيز ستائر وديكورات منزله، وأشيع غروره وهى يسمع عبارات الإنبهار من وزوجته وابنته وابنه بعد أن شاهدوا المكان، رغم أن المنزل لم يكن، بكل ما فيه، إلا تقليدا رخيصا لمنازل الطبقات الأرستقراطية. كان إيفان وأسرته أيضا نسخا مزيفة للأثرياء، فئة ليست فقيرة، وليست أرستقراطية أصيلة، وإنما هى معلّقة بين الاثنين.
يربط تولستوى بين وقوع إيفان أثناء تركيب ستائر منزله، وبين الآلام التى ستهاجمه بعد مرضه، إيفان ايضا يساوره الشك فى هذا الربط، رغم أنه قد لا يكون صحيحا من الناحية الواقعية، ولكنه يحمل دلالة رمزية واضحة، ذلك أن إيفان سيصف صعوده المادى بأنه هبوط، تماما كما تلقى بحجر فى الهواء ، فيسقط بسرعة أكبر، المنزل كان عنوان الصعود، وعنوان السقوط معا، فيه كان المرض، وفيه تألم، وفيه حدثت الوفاة.
ولكن تولستوى يغوص ببراعة داخل عقل وهواجس بطله الذى يتأرجح بين الأمل واليأس، المرض يلوّن نظرته للأمور: الطبيب بالنسبة له رجل يكذب، يمارس سلطته عليه، مثلما كان يمارس هو سطوته على كل متهم، علاقة إيفان بزوجته تسوء، كانت علاقتهما مضطربة دوما، ولكنها أخذت شكلا أسوأ بعد المرض، الزوجة تتهم إيفان دوما بعدم أخد الدواء، تضع عليه اللوم فى كل مرة، يشعر إيفان أنها تريد أن تتخلص منه، ولكنها تعرف أن موته لن يحل مشاكلهم المادية، المعاش أقل من الراتب، الابنة تزور والدها وكأنها تؤدى واجبا، ثم تهرع مع خطيبها لكى تلحق بمسرحية لسارة برنار فى دار الأوبرا، لا يستشعر إيفان تعاطفا إلا من خادمه الريفى المخلص، ومن ابنه الصغير.
يتقلص الجسد، يتغير، تفقد الساعات والدقائق معناها مع ساعات جلوسه الطويلة، وحيدا، يحتاج الى مساعدة الآخرين، حتى أثناء قضاء حاجته، ثم يبدأ الألم الرهيب فى الكُلى، ينطلق العقل فى اسئلته، يبكى إيفان كطفل :" بكى لإحساسه بقلة الحيلة، ومن وحدته المرعبة، وقسوة البشر، وقسوة الرب، وغيابه" . تساءل : "لماذا تفعل بى كل هذا؟ لماذا أحضرتنى الى هنا؟ لماذا، لماذا تعذبنى بتلك القسوة؟" ، يواصل تولستوى الكشف عن أفكار بطله الوحيد:" لم ينتظر إجابة، وبكى، مع ذلك ، لأنه ليست هناك إجابة ولايمكن أن تكون، ومن جديد أصبح الألم أكثر حدة، لكنه لم يتحرك ولم يستدع أحدا، قال لنفسه : استمر، اضربنى! ولكن لماذا كل هذا؟ ماذا فعلت لك؟ لماذا كل هذا؟".
فى تلك اللحظات القاسية يتمنى إيفان بغريزة الحياة أن يعيش مثلما كان، فيخرج من داخله سؤال أعقد: " وهل كان يعيش حقا؟ هل كان سعيدا؟"، عندما يعود إيفان الى ماضيه، لايجد ما يستحق السعادة سوى لُحيظات من طفولته، يؤدى استدعاؤها الى مزيد من الألم. ممددا بلا حول ولا قوة، يكتشف إيفان زيف عالمه، وزيف فكرة صعوده نفسها :" كان يبدو وكأننى أنزل الى الوادى فيما كنت أتخيل أننى أصعد. كنت أصعد بالنسبة للرأى العام، لكن بنفس النسبة كانت الحياة تنحسر بداخلى، والآن، انتهى كل شىء، ولم يتبق سوى الموت" .. " بدأ يراجع حياته بطريقة جديدة تماما، وفى الصباح عندما رأى الخادم، ثم زوجته، ثم الطبيب، كانت كل كلمة وحركة منهم تؤكد له الحقيقة المرّة، التى تكشفت له خلال الليل، رأى نفسه فيهم، كل ما عاش من أجله، ورأى بوضوح تام أنه لم يكن حقيقيا بالمرة، بل كان خدعة كبيرة ومرعبة تخفى حقيقة الحياة والموت" ، تعذب إيفان نفسيا بهذا السؤال الذى طارده بلا رحمة: " وماذا لو كانت كل حياتى خطأ؟".
الأفيون يسكّن آلام الجسد، ولكن الروح التى أدركت حقيقتها العارية تتعذب، ثلاثة أيام كان صوت إيفان الصارخ من الألم يشق جنبات منزله، صراخ فى الميلاد، وصراخ فى الوداع، كان محشورا فى حقيبة الموت، يحاول أن يدخلها، عندما قبّله ابنه لمح ضوءا لأول مرة، تساءل عما يكون الصواب، تعود على الألم، لم يعد يخشى الموت، تخلص منه، احتضر ساعتين، ثم مات. يقدم تولستوى أحد أعظم مشاهد الموت فى تاريخ الرواية، مزيج مدهش بين آلام المرض، وآلام الميلاد الجديد، وكأن لحظة النهاية بالنسبة لإيفان، لم تكن فى حقيقتها سوى لحظة تنوير، بداية اكتشاف الحقيقة أخيرا، حقيقة حياته ، وحقيقة الأخرين، وكأن الألم ليس إلا تعبيرا عن صرخة الكشف، وصدمة مواجهة الذات.
"موت إيفان إيليتش" هى أيضا بنفس القدر رواية عن الحياة، قال نجيب محفوظ ذات مرة :" موت إنسان هو أعظم مناسبة للتفكير فى الحياة وليس فى الموت. علينا أن نسأل أنفسنا :" وماذا فعلنا ونفعل نحن بحياتنا؟"، لا أجد أفضل من عبارة محفوظ للكشف عن مفتاح رواية تولستوى العظيمة، بل لعل محفوظ استلهم عبارته من معنى رواية تولستوى. البساطة المذهلة فى السرد تخفى فى الرواية أسئلة مفزعة عن ماهية الحياة ، ماهية الموت، ماهية الألم، أسئلة عن علاقة الإنسان بذاته، وبالآخرين، عن الفارق بين أن نعيش أو أن نحيا بالفعل، هل الألم عقاب أم أنه تطهر؟ هل الموت فناء أم أنه لحظة اكتشاف وتأمل لحياتنا بأكملها؟ هل الموت كارثة أم أنه اللحظة الحقيقية الوحيدة التى نعيشها؟ هل الخلاص يكون بالحياة أم أنه قد يكون بالموت أيضا؟
لا مثيل لهذا العمق الذى طرق به تولستوى موضوعه فى صفحات قليلة، ومن خلال حدث واحد فقط. كان تولستوى يمتلك بصيرة الفنان، التى تجعله يقرأ أعماق العقل والنفس والروح، لعله كان يكتب نفسه فى كل مرة رغم تغير الأسماء، كان إيفان أحد أقنعة تولستوى لكى يطرح أسئلته التى تؤرقه، راجع الروائى العظيم حياته بأكملها، وقام بتغييرها قبل أن يموت، لم يتنظر اللحظة الأخيرة مثل إيفان، تراه كتبه ثم تعلّم منه؟ كان اللورد بايرون يقول عن بصيرته الفنان : " إنهم ينظرون، ولكنى أرى"، وأحسب أن هذه العبارة تنطبق أيضا على تولستوى، وعلى كبار مبدعى الرواية الروس : كنا ننظر، فأصبحنا نرى الحياة، بفضل ما كتبوه، أعمق وأوضح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق