الدب قادم من الجبل-قصة قصيرة
كتبتها : أليس مونرو فى 27 ديسمبر , 1999
ترجمة : مها جمال
عاشت فيونا فى منزل والديها , فى المدينة حيث جامعتها هى وجرانت . كان منزلا كبيرا له نافذة تطل على خليج ويعتبره جرانت منزلا فاخرا وفاقد للنظام ببسطه الملتوية على الأرضيات وحلقات الأكواب المدهونة بورنيش الطاولة . كانت والدتها أيسلندية ـــــــــــ امرأة قوية بزغب أبيض وميول سياسية يسارية ساخطة سابقا . كان الأب طبيب أمراض القلب , موقرا فى المستشفى ولكنه فى البيت خاضع بسعادة , حيث يستمع لتقريع زوجته الغريب, بابتسامة شريدة . كان لفيونا سيارتها الصغيرة وكومة من البلوزات الكشمير ,لكنها لم تنتم لناد نسائي ,ربما كان نشاط أمها السياسي هو السبب. لم يكن هذا من اهتماماتها . بالنسبة لها النادي النسائي كان مجرد مزحة . وكذلك السياسة ــــ بالرغم من أنها كانت تحب تشغيل " أربعة جنرالات متمردين " و" الدولى " على الفونوجراف وبصوت عال , وتعتقد أن ذلك سيجعل أى ضيف متوترا . قال رجل أجنبى ــــ ذو شعر أجعد ونظرة كئيبة ــــحين غازلها ــــقالت بأنه يبدو من القوط الغربيين ـــــوكذلك كان يبدو اثنين أو ثلاثة من الأطباء الشباب المتدربين محترمين وقلقين . كانت تسخر منهم جميعا ومن جرانت بالمثل . كانت تكرر بسخرية بعض من عبارات مدينته الصغيرة . اعتقد أنها ربما كانت تمزح أيضا عندما طلبت يده للزواج , فى يوم بارد رائق على شاطىء ميناء ستانلى . كان الرمل يلسع وجهيهما والأمواج بحملها تلطم الحصى عند أقدامهم
" هل تعتقد أنه يكون أمرا مضحكا ــــــ" صاحت فيونا . " هل تعتقد أنه سيكون مضحكا لو تزوجنا ؟"
فى الحال رفعها , وصاح نعم . لم يشأ أن يبتعد عنها . لقد حصلت على بريق الحياة .
قبل مغادرتها للمنزل لاحظت فيونا علامة على أرضية المطبخ . كانت ناتجة من حذائها الأسود المنزلى الرخيص الذى كانت ترتديه فى وقت مبكر من اليوم .
" اعتقدت أنه قد توقف عن فعل ذلك ," قالت بنبرة عادية تسيطر عليها ضيق وحيرة , نظفت البقعة الرمادية التى بدت كأنها جاءت من قلم شمع .
لاحظت أنها ليس عليها أن تفعل ذلك ثانية , بما أنها لن تأخذ هذا الحذاء معها .
" أخمن أننى سأبقى مرتدية كل ملابسي معظم الوقت" قالت ." أو مرتدية نصف ملابسى . ستشبه الحياة فى فندق ."
شطفت الخرقة التى استعملتها وعلقتها على رف تحت المغسلة خلف الباب . ثم ارتدت جاكت التزلج البنى الذهبى بياقة من الفراء على بلوزة بيضاء برقبة مدورة وبنطلون بنى فاتح . كانت امرأة طويلة ذات كتفين ضئيلين , ذات سبعين عاما لكنها مازالت مستقيمة ومتوازنة , بساقين طويلتين وأقدام طويلة , برسغين وكعبين رقيقين , وأذنين صغيرتين بشكل مضحك .كان شعرها أبيض مثل زغب عشبة اللبن تحول من الأشقر الباهت إلى الأبيض دون أن يلاحظ جرانت متى بدأ هذا بالضبط , ومازالت تسدله على كتفيها كما كانت تفعل أمها . ( كان هذا ما نبه أم جرانت , أرملة من مدينة صغيرة تعمل موظفة استقبال عند طبيب . الشعر الطويل لأم فيونا يخبر بالكثير ربما أكثر من الشعر عن حالة المنزل , عن المواقف و السياسة .) لكن بصورة أخرى كانت فيونا بعظامها القوية وعينيها الزرقاوين الصغيرتين , لم تشبه أمها . لديها فم ملتو قليلا , والذى تؤكد عليه الآن بطلاء الشفاه الأحمر ــ وتحرص دائما أن يكون أخر شيء تضعه قبل خروجها من المنزل .
فى ذلك اليوم كانت تشبه نفسها – مباشرة وغامضة كما هى فى الحقيقة , حلوة وساخرة .
منذ عام مضى , لاحظ جرانت الكثير من أوراق الملاحظات ملتصقة فى أنحاء البيت . لم يكن هذا جديدا تماما .فقد اعتادت فيونا أن تدون الأشياء التى فعلتها ـــــ عنوان كتاب سمعت عنه فى الإذاعة أو أعمال تريد أن تتأكد من فعلها فى نفس اليوم . حتى جدول أعمالها الصباحى كانت تدونه . وجد الأمر محيرا ومؤثرا لدقته : " 7. ص يوجا . 7.30 – 7.4.30 – 7.45 وجه , أسنان , شعر . 7.45- 8.15 تمشية . 8.15 جرانت والإفطار ."
الملاحظات الأخيرة كانت مختلفة . ملتصقة بأدراج المطبخ , هذا لأدوات المائدة , لفوط تجفيف الأطباق , للسكاكين . هل كانت لا تستطيع فتح الأدراج لترى ما بداخلها ؟
أشياء سيئة قادمة . ذهبت للمدينة و هاتفت جرانت من الكابينة لتسأله كيف تعود للمنزل . ذهبت لتمشيتها المعتادة عبر الحقول والغابات وعادت للمنزل بمحاذاة السور ــــــ طريق طويل . قالت أنها اعتمدت على الأسوار فى طريقها إلى مكان ما .
من الصعب تخيل الموضوع . تحدثت عن الأسوار كما لو كانت مزحة , وتذكرت رقم الهاتف بلا متاعب .
"لم أفكر أن الأمر يستحق القلق ". قالت . " توقعت أننى فقط أفقد عقلى ."
سألها إذا كانت تأخذ حبوبا منومة .
" حتى لو كنت أفعل لا أتذكر . " قالت . ثم اعتذرت لأنها بدت وقحة . " أنا متأكدة أنى لم أتناول أى شيء . ربما كان يجب أن أفعل . ربما كانت فيتامينات ."
الفيتامينات لا يمكنها المساعدة . كانت تقف عند البوابة تحاول أن تتخيل إلى أين ستذهب . تنسى أن تشعل الموقد تحت الخضروات أو تضع ماء فى إناء القهوة . سألت جرانت متى انتقلا إلى هذا المنزل .
صورة : أرشيف ضخم
" كان ذلك العام الماضى أم ماقبله ؟"
" منذ اثنا عشرة عاما ," قال .
" هذا صادم ."
" كانت قليلا ما تبدو هكذا , " قال جرانت للطبيب .لم ينجح فى محاولاته لشرح حالة فيونا وكيف كانت مفاجأتها واعتذاراتها التى أصبحت الآن مثل المجاملات اليومية , وليست مجرد إخفاء لتسلية خاصة .كما لو كانت تتعثر فى مغامرة غير متوقعة . أو بدأت فى لعبة تأمل أن يفهمها .
"نعم , حسنا " قال الطبيب . " ربما تكون انتقائية فى المرحلة الأولى . لا نعلم , أليس كذلك ؟ حتى نرى نموذجا لتدهور الحالة , لا نملك القول فى الحقيقة ."
لوهلة من الصعب وضع عنوانا لهذه الحالة . لم تعد فيونا تذهب للتسوق وحدها , اختفت من السوبر ماركت عندما أدار جرانت ظهره . وجدها شرطي بينما كانت تتمشى فى وسط الطريق , وتقف أحيانا . سألها عن اسمها و أجابته بسهولة . ثم سألها عن اسم رئيس الوزراء .
" لو كنت لا تعرف أيها الشاب فإنك لا تستحق تلك الوظيفة ذات المسئولية."
ضحك . ثم ارتكبت خطأ بسؤاله إن كان رأى بوريس وناتاشا . كانا كلاب صيد روسيان وهما ميتان الآن , وقد تبنتهما منذ سنوات لصالح صديق ثم كرست نفسها لهما لبقية حياتهما . تبنيها لهما تصادف مع اكتشافها أنها لن تنجب . هناك انسداد ما أو التواء فى الأنابيب عندها ـــ لا يتذكر جرانت هذا الآن . فهو يتجنب دائما التفكير فى كل ما يخص جهاز الأنثى . أو ربما كان بعد وفاة والدتها . الكلاب بأرجلها الطويلة وشعرها الحريرى , ووجوهم النحيفة اللطيفة المتصلبة كانوا رفقاء سيرها . وجرانت نفسه , فى تلك الأيام استقر فى وظيفته فى الجامعة ( وثروة حماه رحبت بهما بالرغم من تلوثها بالسياسة ), وبدت للبعض أنها تم جمعها عن طريق بعض من نزوات فيونا الشاذة , تم إعدادها , ومراقبتها وتحويلها ـــ وبالرغم من ذلك , لحسن الحظ , لم يفهم ذلك إلا من وقت قريب .
هناك قانون أنه لا يمكن السماح لأى أحد بالدخول إلى بحيرة المرج خلال شهر ديسمبر . فموسم الأجازة ملىء بالمخاطر المؤثرة .لذلك فهم يقودون العشرين دقيقة فى شهر يناير . قبل الوصول للطريق السريع لأن طريق البلدة منغمس بمستنقعات جوفاء والآن متجمدة تماما .
فيونا قالت , " آه , تذكرت ."
قال جرانت , " كنت أفكر فى ذلك أيضا "
" كان ذلك فى ضوء القمر ", قالت
كانت تتحدث عن مساء حين ذهبت للتزلج ,كان القمر بدرا وعلى الطريق المخطط بالثلج , فى ذلك المكان يمكنك أن تدخل فقط فى أعماق المياه . قد سمعا صوت الأغصان تتشقق من البرد .
إذا كانت تتذكر ذلك بوضوح وبدقة , هل سيعنى هذا الكثير بالنسبة لها ؟ كل ما كان يستطيع فعله ألا يستدير و يعود للمنزل .
هناك قانون أخر و الذى شرحه له المشرف. أن المقيمين الجدد لا يمكن زيارتهم خلال الثلاثين يوما الأولى . معظم الناس تحتاج لتلك الفترة ليستقروا .قبل ذلك القانون كان هناك الكثير من المناشدات والدموع ونوبات الغضب , حتى من الذين دخلوا عن طيب خاطر . فى اليوم الثالث أو الرابع يبدأ النحيب والتوسل لإعادتهم إلى بيوتهم . وبعض الأقارب هم من يتعرضون لذلك , بذلك يكون لديك أشخاص مقتادين من منازلهم ولن يستمروا . ستة أشتهر وأحيانا بعد أسابيع قليلة فيما بعد كل المشاحنات ستتجدد ثانية .
فى حين أننا وجدنا , " قال المشرف , " أننا وجدنا إذا تركناهم على حالهم للشهر الأول فسينتهى الشهر سعيدا و بهدوء .فى الحقيقة إنهم اجتازوا بحيرة المرج مرات قليلة منذ سنوات بعيدة لزيارة السيد فاركيوهار , جارهم الفلاح الأعزب العجوز , الذى عاش فى منزل من الطوب مفتوح دائما بلا تجديد منذ السنوات الأولى من القرن , فيما عدا ثلاجة وجهاز تلفيزيون . الآن وبعد بيع منزل السيد حل مكانه نوع البنايات التافهة والتى كانت مجرد بيت لقضاء نهاية الأسبوع لبعض الاشخاص من تورنتو , أيضا البحيرة القديمة اندثرت , رغم أن إنشاءها كان فى الخمسينات . المبنى الجديد كان واسعا محدبا , وكان هواؤه معطرا بلطف برائحة الصنوبر الخفيفة , نبتت خضرة وافرة و أصلية فى بعض الأوانى الفخارية العملاقة فى الطرقات .
ومع ذلك فقد أخذ جرانت صورة لفيونا عند البحيرة , خلال الشهر الطويل الذى لابد أن يقضيه بدون أن يراها . كان يتصل بها يوميا ليطمئن أنها قد أصبحت فى رعاية ممرضة اسمها كرستى. كانت مستمتعة قليلا بثباته , لكنها ستعطيه تقريرا وافيا أكثر من أى ممرضة أخرى يلتصق بها .
أصيبت فيونا ببرد فى الأسبوع الأول , قالت, لكن هذا ليس عاديا للقادمين الجدد ." مثلما يبدأ أبناءك المدرسة , " قالت كريستى " هناك مجموعة كبيرة من الكائنات الدقيقة يتعرضون لها لفترة بينما قد يلتقطون كل شيء ."
ثم تحسن دور البرد . وانتهت من المضاد الحيوى ولم تبد مرتبكة كما كانت عندما دخلت . ( كانت المرة الأولى التى عرف فيها جرانت عن المضاد الحيوى والارتباك .) كانت شهيتها جيدة إلى حد ما ومستمتعة بالجلوس فى الحجرة المشمسة . وبدأت تتخذ صداقات جديدة , قالت كريستى .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أليس مونرو الأديبة الكندية التى نالت جائزة نوبل فى الأدب لهذا العام 2013 عن القصص القصيرة وهى قد بلغت الثانية والثمانين من العمر . وحصدت مونرو خلال مسيرتها الإبداعية الطويلة معظم الجوائز المرموقة في كندا، وأميركا وأستراليا. وهي اول كندية تفوز بنوبل للآداب والمرأة الثالثة عشرة التي تدون اسمها في سجل هذه الجائزة.