الخميس، 11 ديسمبر 2025

لماذا لم تعد تسألني بمَ تفكر؟
لعلك سئمت تقلبات أمزجتنا
أو لعلك مللت من اتهامنا لك بالتطفل وتدخلك فيما لايعنيك
حسنا، سأبادر أنا وأجيبك عن سؤالك القديم/ اللئيم
أفكر في:


أوقظ أبي من غيبوبته ليخبرني بإسم الصبي في حكاياته لي ماقبل النوم
أن أقطع وريدي الممتليء بأخطائي
لتنبت حياة أخرى في وريد آخر
في كتابة الشعر بدلا من تقارير العمل المملة
كيف أجري لمسافات ولا يتسلل البول من طيات ثيابي
صنع سجادة كبيرة من جواربي القديمة أضع فيها الفضوليين
وألقي بهم في ...



سيناريو العصر الرقمي وانقلاب السيطرة على 'الطبقة المخملية'"

 

🎭 الجزء الثاني: سيناريو العصر الرقمي وانقلاب السيطرة على "الطبقة المخملية"

1. التحدي الجوهري: أين ذهبت الطبقة المخملية؟

إن تراجع سطوة هيجنز يبدأ من هنا. السؤال ليس فقط كيف تغيرت متطلبات القبول، بل هل الطبقة التي كان هيجنز يحاول دمج صدفة فيها ما زالت موجودة؟

  • إن التداخل الطبقي أصبح حتمياً في مجتمعاتنا الحديثة. الطبقة المخملية القديمة، التي اعتمدت على الألقاب والميراث الثقافي، قد تلاشت أو على الأقل تخفت في ضوء التطورات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة.

  • لم يعد القبول يعتمد على القواعد الصارمة التي كان يفرضها هيجنز، بل أصبح أكثر ارتباطاً بالمال الجديد والسلطة الاقتصادية، بغض النظر عن مصدرها. هذا التراجع في قيمة "التحضر الأكاديمي" مقابل "المال السريع" هو أول دليل على "ذوبان الطبقات".

2. سيناريو العصر الرقمي: انقلاب السيطرة (افتراض جدلي)

إذا أُنتج العمل في زمننا، فإن التحول الاجتماعي سيتم عبر منصات التواصل، والمفتاح سيكون الهوية الرقمية وليس النطق.

  • لنتخيل أن البطلة صدفة حققت الشهرة والمال عبر السوشيال ميديا. هذا الافتراض الجدلي يهدف إلى قياس مدى "ذوبان الطبقات" اليوم، حيث يتم التحول عبر التأثير الرقمي.

  • هنا ينقلب ميزان القوى كلياً: لم يعد الأكاديمي (دكتور كمال/هيجنز) هو الطرف المسيطر. المرأة العصرية تملك رأس المال الرقمي والسلطة المستمدة من جمهورها، مما يجعلها قادرة على جذب الأكاديمي البطل إلى قاعها الاقتصادي الجديد (الشهرة السريعة والمال)، بل والسيطرة عليه.

3. ما وراء المشقة: من اللغة إلى الأصالة

مشقة الماضي كانت في تغيير النطق، أما المشقة اليوم فتكمن في الحفاظ على الأصالة وسط ضغط الهوية المنسقة (Curated Identity).

  • القوة تتبع الآن الموارد: هذا السيناريو يؤكد أن القوة لم تعد في القواعد الصارمة أو اللغوية، بل في من يملك الموارد، بغض النظر عن درجته العلمية. القصة لن تدور حول تدريب امرأة على النطق، بل حول قدرة رجل على التكيف مع سلطة المال الجديد التي تملكها المرأة المتحررة رقمياً.

  • الخلاصة التحليلية: هذا التناقض الجذري يُثبت أن المتطلبات القديمة التي كان يفرضها هيجنز لم تعد صالحة. اليوم، لم يعد يملك مفتاح الباب الاجتماعي؛ المفتاح أصبح المتابعين (Followers)، وهذه القوة متاحة لمن يستطيع استغلال ظهورها على الإنترنت.

4. : بيجماليون والنقد المستمر

على الرغم من ذوبان الطبقات وتغير أدوات السيطرة، تبقى قصة بيجماليون و سيدتي الجميلة حجر الزاوية في نقد استغلال القوة. فإذا لم يعد الصراع حول اللغة، فقد تحول إلى صراع حول الأصالة مقابل الصورة المنسقة، وحول من يملك الحق في تعريف "الرقي" في مجتمعنا المعاصر

 الخاتمة: بيجماليون والنقد المستمر

على الرغم من ذوبان الطبقات وتغيّر أدوات السيطرة، تبقى قصة بيجماليون وسيدتي الجميلة حجر الزاوية في نقد استغلال القوة، لأنها تكشف أن جوهر الصراع لم يتغير، بل تغيّر شكله فقط. فإذا لم يعد الصراع يدور حول اللغة والنطق والدخول إلى "الصالونات المغلقة"، فقد انتقل اليوم إلى صراع أكثر تعقيدًا:
الصراع بين الأصالة وبين الصورة المنسَّقة التي تُنتِجها وسائل التواصل الاجتماعي.

في الماضي، كان هيجنز يمتلك السلطة لأنه يمتلك المعرفة، وكان بإمكانه إعادة تشكيل إليزا صوتيًا لتدخل صفوف الطبقة الراقية. أما اليوم، فالسلطة انتقلت إلى من يملك القدرة على صناعة صورة رقمية مؤثرة، وهي سلطة تستطيع امرأة مثل صدفة — في السيناريو الافتراضي — أن تمتلكها بقوة الحضور والتأثير، لا بقواعد النطق.

هذا التحوّل يفضح حقيقة أعمق:
لا يوجد مفتاح ثابت للقبول الطبقي.
كل عصر يخلق مفتاحه الخاص، ويمنح قوته لمن يجيد استخدامه.

وفي كلتا القصتين — القديمة والحديثة — يظهر سؤال شو الأبدي:

هل الإنسان مشروعٌ يُصنَع؟ أم ذاتٌ تَصنع نفسها؟

إليزا تمردت لتحرر نفسها من سلطة المعلم.
وصدفة الرقمية — لو وُجدت — ستملك سلطة من نوع جديد، لكنها ستواجه سؤالًا أكثر حدّة:
هل الصورة التي صنعتها تعبر عنها حقًا، أم أنها أصبحت سجينةً لها؟

وهكذا تظلّ بيجماليون، بنسخها المتعددة، نقدًا مستمرًا لكل أشكال إعادة تشكيل الإنسان تحت مسميات التحضر أو النجاح أو الشهرة.
تظل سؤالًا مفتوحًا حول العلاقة بين القوة والطبقة والهوية…
وسنظل نعود إليها كلما تغيّر شكل هذا الصراع، لنكتشف أننا نعيش النسخة الجديدة من اللعبة نفسها.


الأربعاء، 10 ديسمبر 2025

الجزء الأول لدراسة عن صراع الطبقات قديما (سيدتي الجميلة نموذج) وفي العصر الحالي/ بقلمي: مها جمال

 

هل الانتماء للطبقة حق أصيل؟ مقارنة بين صدفة وإليزا في زمن الاصطناع الاجتماعي

 المقدمة: من لندن إلى القاهرة، والصراع الذي لا يموت

تبدو مسألة الانتماء الطبقي، في ظاهرها، واحدة من أقدم الأسئلة في تاريخ الاجتماع الإنساني؛ لكنها في الحقيقة سؤال يتجدّد مع كل عصر، ويكتسب وجوهًا جديدة كلما تغيّرت أدوات الفرز الاجتماعي ومعاييره. فبينما تأسست المجتمعات القديمة على طبقات شبه ثابتة تُحدَّد بالميلاد والمهنة والمكانة، جاءت الحداثة لتمنح الإنسان وهم القدرة على إعادة تشكيل ذاته وصورته وموقعه في السلم الاجتماعي، لكنها في الوقت نفسه أعادت إنتاج الحواجز بأساليب أكثر نعومة وخفاء.

من هنا تأتي قيمة العودة إلى عمل مثل بيجماليون (1913) لجورج برنارد شو، ليس بوصفه نصًا مسرحيًا فحسب، بل بوصفه وثيقة اجتماعية تكشف كيف يمكن للغة، بكل ما تحمله من نبرة ودلالة ورمزية، أن تصبح أداةً للفرز والتحكّم، بل ولصنع “بشر” جدد حسب الطلب والمقاس. فإليزا دوليتل، بائعة الورد الشعبية، لم تكن مشروع "تهذيب" لغوي فقط، بل كانت تجسيدًا مرئيًا لفكرة أن الطبقة ليست قدرًا، بل بناء يمكن تفكيكه وإعادة تركيبه.

ومع انتقال العمل إلى السياق المصري في مسرحية سيدتي الجميلة، تحوّل السؤال ذاته إلى سؤال محلي:
هل ما زال التغيير الطبقي مجرد وهم اجتماعي مغلّف بكلام عن الرقي والسلوك؟ أم أنّ الثقافة المصرية – بصرامتها القديمة ومرونتها الجديدة – قد أنتجت نموذجًا مختلفًا لتغيير الطبقة، يقوم بالأساس على الاندماج والاستقرار العائلي، لا على استقلالية الفرد؟

إن المقارنة بين إليزا وصدفة ليست مقارنة بين شخصيتين فحسب، بل هي مقارنة بين مجتمعين ونظامين طبقيين:
– الأول يقوم على اللغة والمعرفة والتمرّد
– والثاني يقوم على السلوك وشكل الحياة ومفهوم "الستر"

ومع ذلك، يبقى السؤال الأكبر معلقًا بين العملين:
هل الانتماء الطبقي حق أصيل يولد مع الإنسان؟ أم هو قناع اجتماعي نرتديه، ونُصدّق بعد حين أنه جلدنا الحقيقي؟

هذه الدراسة تحاول إعادة قراءة الصراع الطبقي قديمًا وحديثًا عبر هاتين الشخصيتين، باعتبارهما مرآتين لثقافتين وزمنين، ولحلم الإنسان القديم المتجدد في أن يصنع لنفسه موقعًا يليق به… ولو كلّفه ذلك أن يتمرّد على صورته الأولى.

مسرحية بيجماليون (1913) للكاتب الأيرلندي جورج برنارد شو، ليست مجرد حكاية عن تحول فتاة من بائعة ورد شعبية (إليزا دوليتل) إلى سيدة مجتمع، بل هي دراسة لاذعة لكيفية استخدام اللغة كأداة قاسية للفرز الطبقي. ومع تحويلها إلى المسرحية المصرية سيدتي الجميلة (بطولة شويكار وفؤاد المهندس)، تحوّل العمل ليُجيب على سؤال أعمق: هل ما زال متطلب التغيير الطبقي صعباً كما في الماضي، أم أننا نعيش في زمن "ذوبان الطبقات"؟

2. الصراع القديم: اللغة كحاجز والآباء كرهن

كان محور الصراع في العملين يدور حول فرض المعايير على شخصية تنتمي إلى طبقة دنيا.

  • بيجماليون (الأصل): كان المفتاح هو علم الصوتيات (Phonetics)، حيث اللغة هي جواز المرور الوحيد للطبقة المخملية في لندن، مما يعكس صرامة المجتمع البريطاني تجاه الطبقات الدنيا.

  • سيدتي الجميلة (التوطين): تحوّل الصراع إلى السلوك والعادات الاجتماعية. كما يمثل الأب بعضشي (وهو توطين لشخصية الأب دوليتل) الطبقة الشعبية التي يقع عليها ضغط التغيير، مما يعكس صرامة التغيير الطبقي في الزمن القديم.

3. استقلالية إليزا مقابل استسلام صدفة

هنا يكمن الفرق الجوهري الذي يترجم الصراع الطبقي في كل مجتمع:

  • تمرد إليزا (الأصل): إليزا في نهاية العمل تمردت على معلمها (هيجنز) ورفضت أن تكون مجرد إضافة في حياته، وأثبتت أنها هي من صنعت قيمتها. هذا التمرد ليس مجرد خلاف رومانسي، بل هو رفض لسلطة الرجل والمجتمع الذكوري، وجوهر النقد النسوي الذي أراده شو.

  • استسلام صدفة (النسخة المصرية): البطلة صدفة تستسلم لطموح الأستاذ كمال وتصبح مكملة له في إطار زواج تقليدي سعيد. هذا يترجم ميل التناول المصري في تلك الفترة إلى الاستقرار الاجتماعي عبر الزواج بدلاً من الاستقلال الشخصي، ويقلل من قوتها كشخصية قائمة بذاتها.

4. الإشكالية الفلسفية: الطبقة كقناع.. والتمرد كمفتاح

هذا التناقض يقودنا إلى الأسئلة الفلسفية التي يثيرها العمل:

أولاً: هل الانتماء لطبقة معينة حق أصيل؟

من منظور العمل، الإجابة هي لا. الطبقة ليست حقاً أصيلاً يولد به المرء، بل هي قناع اجتماعي يمكن ارتداؤه (كما أثبت هيجنز بتغيير نطق إليزا). برنارد شو يهاجم فكرة "الحق الأصيل" الطبقي، ويثبت أن الطبقة ما هي إلا مجموعة من العادات واللغة يمكن محاكاتها، مما يُجرّم الطبقة العليا التي تعتقد أن رقيها حق أبدي.

ثانياً: هل التمرد على الطبقة مفتاح للوصول؟ وهل تقبل الطبقة الجديدة بالمتمرد؟

نعم، تمرد إليزا هو مفتاح الوصول، ولكن ليس للوصول إلى مراكز الطبقة العليا، بل للوصول إلى الاستقلال الشخصي وكرامة الذات. التمرد هنا هو مفتاح تحرير الذات من قيود كل من الطبقة القديمة وسيطرة المعلم.

ومع ذلك، تبقى الإجابة عن الشق الثاني معقدة: إليزا تعلم يقيناً أن الطبقة التي تدربت لتدخلها لن تقبلها حقاً كفرد؛ ستظل دائماً "الفتاة التي صنعتها التجربة". لهذا السبب تختار التمرد والرحيل، لأن الوصول لا يعني بالضرورة القبول الحقيقي.

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2025

أبي والأبنودي في زمن عزّ فيه وفاء الأصدقاء

كتبت: الشاعرة والمترجمة مها جمال

لكل زمان مضى آية، وآية هذا الزمان النكت الأبنودي

هذا المقال كان محاولة لإنعاش ذاكرة والدي المريضة -رحمه الله- عن جانب إنساني وشخصي للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، الصديق الوفي والمحب لأصدقائه في وقت تغلبت المادة والمصالح على العلاقات الإنسانية.

— كان والدي والأبنودي دائمي الهروب من المدرسة وخاصة عندما يكون اليوم الدراسي طويلاً (7 حصص) ليذهبا إلى الغابة أو يخرجان أثناء الحصص مع جماعة النشاط المسرحي. — عرف والدي عبد الرحمن الأبنودي منذ المرحلة الابتدائية عندما سكنوا قنا في شارع بني حسن، واستمرت الصداقة حتى نهاية المرحلة الثانوية.

أخذت هذه الصورة في مدرسة قنا الثانوية يوم الاحتفال بعيد النصر 17/12/ 1957


 ذكريات الشغب والعشق لقنا

كان عبد الرحمن الأبنودي طاقة حب متحركة، صعيدي بقلب حامٍ، عاشق لمصر وترابها ونيلها وقريتها ومدينتها.

— لم يتخل عن لهجته العامية في إلقاء قصائده التي كانت بحرارة شمس الصعيد. — كانت ذاكرته راصدة ومتأملة لكل أغاني الطفولة في قريته وفي قنا. — في نهاية كل عام دراسي، كان الأبنودي نجم حفلات مدرسة قنا الثانوية، يكتب المونولوجات والأزجال.

 محطات التحول (من المحكمة إلى الجيش)

أيام السيل والرئيس:

يستطرد أبي قائلاً: في المرحلة الثانوية هاجم قنا سيل مدمر، جاء على أثره الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتفقد المنطقة المنكوبة. ذهبنا لنسلم عليه. الأبنودي كتب عن هذه الواقعة بالتفاصيل في حلقات "أيامي الحلوة".

العمل والتمرد

— بعد المرحلة الثانوية عينه أبوه في المحكمة، لكنه كان يترك تدوين محاضر الجلسات ليكتب الشعر. — نقلوه إلى الأقصر ثم إلى نقادة، ثم قدم استقالته وانتقل للقاهرة.

 رسائل الصداقة والوفاء في الغربة

عندما التحق والدي بالجامعة في القاهرة، والتحق عبد الرحمن بالجيش، كان ينزل عند والدي في سكنه أيام الخميس والجمعة.

مقتطفات من خطابه لأخيه "كمال":


                                                                                             /10/11 1959 جزء من رسالة عن أيامه فترة خدمته                                                                                                                                                                                                            

"كانت فترة الجيش درساً كبيراً.. نافعاً وإن كنت قد اشتريته بأعصابي وعرقي ودمعي".

من رسالة خاصة لوالدي (جمال):

"لم تكن كذلك منذ عرفتك يا جمال ...أنت نعمتي التي أرجوها. أنت نعمتي وهو الواقع وكل ما دفعني إلى الكتابة إليك هو لك الهاتف الذي صرخ في أعماقي بأن أكتب لك...".

كان الأبنودي دائماً يذكره في لقاءاته التلفزيونية بـ "صديقي التاريخي".

 مقتطفات من أعماله النادرة وبداياته

أ. قصيدة "حبيبتي ياللي ناسياني" (1958):

تموت الشمعة....غرقانة ويصرخ قلبي في وداني ... يقول سري...يقول سرك وطرف السر... أدماني ... حبيبتي... ياللي ناسياني

ب. قصيدة "وعلى الأرض السلام" (المنحازة للفقراء):

الغلابة اللي القدر فارش لهم تحت الحيطان... دول عليهم وعلينا وعلى الأرض السلام ... نسيوا طعم الميه حتى نسيوا ايه ريحة الطعام دول عليهم وعلينا وعلى الأرض السلام

ج. مسرحية "الخائن" (1954):

هذه المسرحية الوطنية تظهر شغفه بالقضية منذ صغره. (يتم وضع حوار قصير كمثال):

الأسير (الأب): رباه... أي جرم ارتكبت حتى تجازيني بهذا الابن الخائن؟ حمدي (الابن): صدق أو لا



أول صفحة من مسرحية الخائن..1954

 

تصدق.. لقد تركت جيشكم منذ شهرين..

وهكذا رحل الأبنودي بابتسامة عريضة قاوم بها الفقر والظلم والمرض إلى أن تغلب عليه المرض ورحل تاركاً غرسة حب كبير في قلوب محبيه وأصدقائه. رحم الله الأبنودي ورحم الله والدي


التوثيق: هذه المادة هي مذكرات شخصية بقلم الشاعرة والمترجمة مها جمال، موثقة بالرسائل الخاصة التي تعود للستينيات، وهي مادة أصلية بالكامل ومنشورة خصيصاً في هذه المدونة 

للحب يوم واحد فقط؟

 

إلى روحى المسافرة فى أعماق روحى

فانا أضحك الآن كما لم أضحك من قبل

أحبك أكثر مما أحببتك من قبل

فتحت هديتك التى أرسلت إلىّ

سأضعها  فى مكان مختلف

ليس بجوار هداياك السابقة

فهذه محببة إلى قلبى

نعم

كل مرة ترسل بهدية أقول ذلك

كلا

هذه مختلفة إنها صورللحلم

بحرواأنت جالس أمامه

ولكن من هذه السيدة لماذا هى حزينة؟

هل زرعت فى الرمل أغنيات

ووهبتها للبحر؟

تكاد دمعة تقفز من عينها

هل فقدت أحلامها على أرصفةمحطات عمرها؟

ربما هى تحبك

والكلام يخونها ولا تستطيع مصارحتك

لماذا أرخيت رأسك للوراء

هل تنتظر عودتك الىّ

بكم من الأشواق؟

تنظر إلى السماء

تعاتبها لأنها فضلت أن تبقى بعيدة عن الارض

لكن فى النهاية حبيبى

سيلتقيا خلف خط الأفق

بعيدا عن أعيننا

ها هذا نورس آت من بعيد

يريد أن يباغتك برسالتى

وأسئلتى

بدأ الجو يتغير ويخيم اللون الرمادى

وتحل سحب قاتمة ماذا حدث؟

هل بكاء السيدة الحزينة هو السبب؟

أرجوك لا تغضب

كان علىّ ان أُحضر لك المزيد من الملابس الثقيلة

غدا عيد الحب

لا أدرى لماذا يجعلون للحب عيدا

لأنه مناسبة أو حادثة جديدة على الكون؟

الحب بيننا فى كل مكان

فى كل لحظة

لا ينتظر عيدا لكى يأتى

فما أشقى ممن  ليس  له قلب يحب

أو ينتظر للحب عيدا 

من مجموعتي (سيد الصمت) قيد النشر

الخميس، 27 نوفمبر 2025

📚 دراسة نقدية: القاضي والمتهم.. والسعي وراء المعنى

 مقارنة أيديولوجية بين تولستوي وزوسكيند

هل تكمن مأساة الإنسان في الطريقة التي يموت بها، أم في طريقة الحياة التي اختار أن يعيشها؟

تجمع هذه الدراسة بين عملين أدبيين يفصل بينهما قرن من الزمن وفلسفتان متباينتان، هما رواية "موت إيڤان إيليتش" (1886) لليو تولستوي و**"العطر: قصة قاتل"** (1985) لباتريك زوسكيند. يمثل تولستوي رائد الواقعية الأخلاقية التي تنتصر للإيمان، بينما يقدم زوسكيند نموذجاً لما بعد الحداثة التي تتسم بالشك والعدمية. ومع ذلك، يتقاطع مصير بطلي الروايتين، القاضي البيروقراطي إيڤان إيليتش والقاتل العبقري جان باتيست جروني، في نقطة محورية واحدة: فشل القوة في جلب المعنى( الحب، السعادةوالانتماء الطبقي).

تسعى هذه الدراسة إلى إثبات أن كلا البطلين يمثلان نموذجاً للفرد المنسحق الذي يجد العزلة في قمة نجاحه، حيث تقود قوة المناصب الزائفة إلى عزلة الأول، بينما تقود قوة العبقرية المطلقة إلى تدمير الثاني. سيتم تحليل هذه المقارنة عبر خمسة محاور أساسية تركز على الضحية، المحاكمة الوجودية، وفشل التواصل الروحي.


المحور الأول: البطل كـ "ضحية المجتمع" ونقد الطبقة

يمثل كلا البطلين نتاجاً لبيئة اجتماعية خانقة، لكنهما وقعا ضحية لها بطرق متناقضة:

1.1. الانهيار الطبقي والدافع:

  • إيڤان إيليتش: كان ضحية الشكليات الطبقية والامتثال. كان هدفه الأسمى هو "الحياة اللائقة والمقبولة"" الحياة كما ينبغي أن تكون"، حيث كان يرتقي في السلم البيروقراطي والقضائي، متخذاً كل خطوة (الزواج، شراء المنزل، طبيعة العمل) كديكور لطبقة اجتماعية معينة. أدى هذا التطلع الأعمى للاندماج إلى عزلة اختيارية عن المشاعر الحقيقية.

  • جان باتيست غروني: كان ضحية الإهمال المطلق والطبقة المسحوقة. ولد في القاع، مُجرداً من الكرامة الإنسانية الأساسية. أدى انسحاقه وغيابه الوجودي (ولادته بلا رائحة شخصية) إلى تحوله الإجرامي، حيث لم يسعَ للاندماج في الطبقة، بل لتجاوزها والسيطرة عليها عبر قوة بدائية.

1.2. القوة الفاشلة:

القوة التي امتلكها كل منهما كانت قوة خارجية وانهارت في مواجهة الحقيقة.

  • امتلك إيڤان قوة المنصب والسلطة القانونية، التي لم تستطع أن تخلصه من ألم جسده أو زيف حياته.

  • امتلك غروني قوة السيطرة المطلقة والعبقرية الحسية، التي لم تستطع أن تمنحه هوية أو شعوراً بالحب والسعادة الوجودية.

هذا الفشل المشترك يمثل نقداً لـ "البحث عن المعنى في المكان الخطأ".


المحور الثاني: المحاكمة الوجودية وتضارب الأدوار

يكمن العمق النفسي للروايتين في تحول البطلين إلى قضاة لأنفسهم ولحياتهم، في محكمة تتجاوز القانون:

2.1. إيڤان القاضي الذاتي:

إيڤان كان قاضياً فعلياً يحكم على مصائر الآخرين ببرود روتيني. لكن عندما يواجه مرضه، يصبح متهمًا أمام الموت. التحول الجوهري يكمن في أنه يصبح القاضي الذي يدين نفسه، حيث يحاكم حياته الماضية ويكتشف أنها "كانت خطأ فادحاً". هذا الحكم الصادر منه هو ما يمهد له الطريق إلى الخلاص الروحي والتوبة في اللحظات الأخيرة.

2.2. جروني القاضي المدمر:

جروني رأى نفسه قاضياً على العالم من خلال حاسة الشم، يقيّم الجمال والكمال ويقرر مصير من يمتلكه. رغم إدانة المجتمع له كقاتل، فإنه يبرئ نفسه باستخدام عطره المطلق، مُلغياً سلطة القانون الأخلاقي. ومع ذلك، فإن فشله في الشعور بالحب يمثل إدانته الذاتية النهائية التي تدفعه للفناء. القوة النهائية التي امتلكها لم تنقذه من عبء الخواء الداخلي.


المحور الثالث: الجمال، الهوس، وفشل التواصل الروحي

العلاقة الأكثر حساسية في الروايتين هي علاقة البطل بالحب والتواصل، حيث يظهر الفشل في هذا الجانب كسبب رئيسي للمأساة:

3.1. غياب الحب كدافع للعزلة والإجرام:

لم يعش كلا البطلين الحب الحقيقي. زواج إيڤان كان مجرد واجب اجتماعي و"ديكور"، وتحولت علاقته إلى نزاع بارد. أما غروني، فقد استبدل الهوس بالرائحة بالحب الإنساني. فشلهما في إقامة علاقة عاطفية صادقة هو الدافع الأعمق لعزلة إيڤان وإجرام جروني.

3.2. الفن ونقيض التواصل:

  • فن إيڤان (فن اللياقة): كان فناً شكلياً زائداً، حيث أعطى الأولوية لترتيب الستائر والأثاث على حساب صحته وروحه، وهو فن يفشل عند مواجهة الموت.

  • فن جروني (الجمال المطلق): كان فنه جمالاً خالياً من الأخلاق، حيث أصبح القتل ضرورياً للوصول إلى الكمال الحسي. هذا الجمال المطلق لم يستطع أن يمنحه الانتماء.

3.3. الخلاص مقابل العدمية (نقطة الفصل):

النقطة التي تفصل بين المصيرين هي التواصل.

  • وجد إيڤان الخلاص في تعاطف جيراسيم النقي الذي يمثل الحياة الصادقة.

  • بينما لم يجد جروني أي "جيراسيم" خاص به، مما أكد عدميته المطلقة ودفعه إلى استخدام قوة العطر لتدمير نفسه.


المحور الرابع: تأثير زمن الكتابة (العصر والأيديولوجية)

4.1. تولستوي (القرن 19 – روسيا القيصرية)

  • الأيديولوجية السائدة: الواقعية، المسيحية الأخلاقية، النقد الاجتماعي للفساد الطبقي.

  • تجسيد إيڤان إيليتش: إيڤان نتاج هذا العصر. مأساته هي مأساة فقدان الروح في عالم مهووس بالمظاهر.

  • الرسالة: تولستوي يقدم خلاصًا (Solace). النهاية (النور والغفران) هي حل روحي تقدمه الأيديولوجية الأخلاقية للمشكلة الوجودية.

4.2. زوسكيند (القرن 20 – ما بعد الحداثة)

  • الأيديولوجية السائدة: ما بعد الحداثة، العدمية (Nihilism)، التشكيك في الأخلاق والقيم الكبرى.

  • تجسيد جان باتيست جروني: جروني نتاج أفكار العبثية والنفور. مأساته ليست فقدان الروح، بل غيابها منذ البداية.

  • الرسالة: زوسكيند لا يقدم خلاصًا. نهاية جروني هي تدمير ذاتي وعبث مطلق، ما يعكس عدمية العصر الحديث الذي لا يرى في القوة أو العبقرية أي قيمة روحية باقية.


المحور الخامس: تأثير الأسلوب الكاتب (الأداة السردية)

5.1. أسلوب تولستوي (التحليل النفسي)

  • الأداة: تيار الوعي والتحليل النفسي العميق (Psychological realism).

  • تأثيره على البطل: يسمح لنا بالدخول إلى ذهن إيڤان، والشعور بـ ألمه الجسدي، والعيش معه لحظة بلحظة وهو يحاكم نفسه. الأسلوب نفسه هو جزء من العلاج الروحي للبطل.

5.2. أسلوب زوسكيند (الحسية والسخرية)

  • الأداة: الواقعية السحرية، الوصف الحسي المفرط، والسخرية المرة.

  • تأثيره على البطل: يجعلنا نرى جروني من الخارج، كـ ظاهرة فنية أو كيميائية. التركيز على الرائحة يجرّد جروني من إنسانيته ويحوله إلى أداة لهوسه. الأسلوب لا يسعى للتعاطف بل للصدمة وإثبات سذاجة المجتمع (القطيع).


💡 الخاتمة

في الختام، تؤكد المقارنة بين مصير إيڤان إيليتش وجان باتيست جروني أن كلا البطلين يمثلان نقداً جذرياً للقوة عندما تنفصل عن الجوهر الإنساني.

القاضي الذي يسعى لامتلاك السلطة الاجتماعية، والقاتل الذي يسعى لامتلاك القوة الحسية، كلاهما يكتشف أن هذه القوة لم تحل مشكلة العزلة أو النقص الوجودي. في هذا السياق، يتجلى الفرق الأيديولوجي بين الكاتبين:

  • تولستوي يدين الزيف الاجتماعي ويقدم الخلاص الروحي عبر التوبة.

  • زوسكيند يدين العبثية البشرية ويسلط الضوء على فراغ العدمية حتى في أقصى درجات الكمال.

إن مأساتهما المشتركة تذكرنا بأن الحكم الحقيقي ليس في القانون أو في الجمال المطلق، بل في المحاسبة الوجودية والقدرة على العيش والاتصال بصدق. وهذا يوضح الخلاف الأيديولوجي: تولستوي يقدم الحل الروحي (الخلاص/النور) المتاح في عصره، بينما يتركنا زوسكيند في فراغ ما بعد الحداثة.


📝 قائمة المراجع (References)

.

  1. زوسكيند، ب. (1986). العطر: قصة قاتل. (ج. إي. وودز، ترجمة). ألفريد أ. كنوبف.

    • ملاحظة: النسخة العربية المترجمة (نبيل الحفار) (دار الهلال . مصر) ،  النسخة الأصلية ألمانية. .

  2. تولستوي، ل. (2025). موت إيڤان إيليتش. (مها جمال). الهيئة العامة لقصور الثقافة(2014).

الأربعاء، 26 نوفمبر 2025

 فى أجازات الصيف كنا نذهب دائما   إلى بارا دو جوكوفى ولاية سان سبريتو حيث أصدقاء أمى . كنا نستقل سيارتها الفيات 147 ونصل بعد حوالى سبع ساعات مرهقين لكن سعداء وطوال الطريق تستمع أمى إلى الموسيقى وتغنى نقف  أحيانا عندluncheonettes   والذى تفوح منه رائحة الدهون والقهوة المحمصة لندخل الحمامات التى تنبعث منعا رائحة البول المنفرة  . يجلس خارج الحمامات موظفا بدينا جد يحيك الكروشيه و يبيع المفارش والملابس الداخلية المصنوعة من الكروشيه  وبجواره لافته من الكرتون مكتوب عليها ( البقشيش من فضلك )


كانت أمى طوال الطريق تستمع إلى (جانيس جوبلين) وتغنى كما لو كانت تغنى فى فيلم وتلصق رأسها بنافذة سيارتها الفيات ال
 147

"الحرية كلمة أخرى  تقال عندما لا تجد شيئا تفقده
واللاشيء هنا يعنى اللاشيء.حبيبى,إذا لم أكن حرا , الآن الآن"
حتى عندما كنت لا  أفهم الكلمات نشوة أمى تشعرنى بالنوم..كانت تبدو كامرأة أخرى تدهشنى وتخيفنى.كان كان لصوتها خشونة مثل وت جانيس جوبلين..وكنت أتسأل لماذا يصبح البعض مثل جانيس جوبلين وآخرين مثل أمى.
ذات مرة قلت لها : إنك تغنين كما تغنى جانيس جوبلين .
قالت : الشىء الوحيد المشترك بيننا هو أن والدها كان يعمل فى شركة تيكساكو ..  كما تعرف ..للنفط
غضبت عندما علمت ان جانيس توفيت  عام 1970قبل ميلادى بعقدين  كنت أعتبرها معاصرة لى وكانت تغنى " أنا وبوبى ماك جى "
فى مكان ما على الكوكب  بينما كانت أمى على العكس تماما ولإهتمامتها أبعادا أخرى.أسندت رأسها  خارج نافذة السيارة التى لم تكن "بورش"ومطلية بألوان مهووسة ومرتبطة بالأسفلت الحارق على طريق سريع.
فى بارا دى جوكو كانت أمى تخرج أحيانا للرقص أو لشرب البيرة مع أحدهم.
اثنان منهم أصبحا أصدقاء مقربين لأمى دامت صداقتهم  أكثر من صيف.زارنا أحدهم فى ريو  بينما كان يقيم الآخر فى ريو وكان متزلجا على الماء وله ابن فى الخامسة من عمره كنت أحسده سرا وبغضب .
فى ريو وبارا دوجوكو بدأ صديق أمى يعلمنى التزلج على الماء ولكن سرعان ما ساءت العلاقة بينهما. اتصل بى لعدة أشهرليعرف كيف تسير الأحوال وليعرف من بين السطور إذا ماكانت أمى على علاقة بآخر وما إذا كان الآخر لديه قبولا أكثر منه .فى ذلك الوقت كنت حليفة للمتزلج هذا ولكن ذلك لم يكن جيدا فقد توقف عن الاتصال وتوقفت أنا عن التزلج.
كنت والأطفال الآخرين نبدل ملابس نومنا بملابس البحر  وبالعكس بعد النزول تحت خرطوم المياه فى نهاية اليوم.
أحدهم كان يرمينا بالصابون وزجاجات الشامبو.النمو مثل السحب.لكنى كنت سعيدة بشدة هناك وكنت أعود بعد نهاية الأجازات من بارا دو جوكو إلى جاكراندا  ولون بشرتى أسمر داكن كثل لون المنضدة فى غرفة المعيشة فى منزلنا بجاكراندا.
اعتادت إليسا بمناداتى بفتاة الكراميلا. وإليسا هى أخت أمى فى الرضاعة.
نسب عائلتى  كان بسيطا ومربكا فى نفس الوقت.فقد ربت جدتى إليسا كما لو كانت ابنتها.وبعد ذلك وُلدت أمى ثم توفيت جدتى وبقيت إليسا فى ريو عندما ذهبت أمى إلى تكساس مع جدى. وفى سن السادسة عشرة  وصلت إليسا لسن البلوغ وحصلت على وظيفة وعلى خطيبا لم يكن أبدا ليتزوجها  وكان هذا أفضل من لاشىء.
ولكنها ليست كالإبنة الحقيقية لم تقطع الصلة بمن رباها ولم تره ثانية والعلاقة كانت متيتة بينهما,, وعندما مات جدى الجيولوجى المتقاعد من لدغة ثعبان فى تكساس فى عامه السابع والستين,,, كانت هى إليسا من أرسلت الخبر لأمى فى نصف الكرة الجنوبى.
إليسا هى ابنة نمت عن طريق خطأ فى رحم خادمة جدتى. لم يكن هناك أب فى الصورة  وتوفيت الأم أثناء الولادة.
لكنها ظلت دائما ابنة الخادمة..وهذه الخطيئة الأصلية و نتيجة للعالم الأسود لطبقة الخدم وفى النظام الطائفى المتعمق فى المجتمع البرازيلى..هى من أبعدتها عن أمى التى ذهبت إلى الولايات المتحدة بينما مكثت إليسا بعيدا ..حتى بعد وفاة جدتى.
إذا كانت عالجت مشاعر مجروحة فهى مثل قطع المجوهرات الصغيرة اسفل درجها لم تكن لتطلعنى عليها..
فيما بعد درست التمريض وحصلت على وظيفة عامة وانفصلت عن خطيبها لأنه لم يكف عن المماطلة..وطبقا لرأى إليسا كان ذلك أفضل من أن تبقى فى علاقة نهايتها الفشل.
وبالنسبة لى عندما يسألنى أحدهم ماذا أريد أن أصبح عندما أكبر والأحداث التى مرت بى بمثابة احتلال الموج واقتحامه لشريط من الرمال..
امبادا فندور؟
وبذلك كان العام الذى قضيته فىكوباكبانا وبارا دو جوكو مع تلك الماكينة القوية التى تسمى الفيات 147مريحا بنسبة مائة بالمائة.

وباسثناء حياة جانيس جوبلين لم أرد أى شىء أخر.
أدريانا ليسبوا
غراب أزرق
ترجمة/ مها جمال

 لا شىء مرّتين يحدث

ولن يحدث.لهذا السبب
وُلِدنا بلا دربة
ونموت بلا"روتين".

حتى لو كنا تلاميذ
فى مدرسة العالم،
لن نعيد عاماً سقط من حسابنا
فى أىّ شتاءٍ كان
و أىَّ صيفٍ يكون

لن يتكرّر أىّ يوم
ليس ثمّة ليلتان متقاربتان،
ولا قُبلتان هما نفسهما،
ولا ذات النظرتين فى العيون.”






سطور مكتوبة على شاهد قبر
---------------------------
هنا ترقد عجوز غير عصرية كالنقطة
الفاصلة فى جملة،
واضعة بعض قصائد شعرية ترقد
رقدتها الأبدية
التى رغبت الأرض منحها إياها. مع
أن الجثمان
لا ينتمى إلى مقبرة الأدباء
ومع ذلك ليس ثمة شىء أفضل من

المقبرة
سوى تلك السطور المكتوبة. وزهور
الأرقطيين والبوم
أما أنت أيها العابر، فانزع من حقيبتك
ذلك المخ ألإلكترونى

وعند قبر "شيمبورسكا" تفكر قليلا.
ترجمة /مها جمال
 TO EROS by WILFRED OWEN

In that I loved you, Love, I worshiped you;
In that I worshiped well, I sacrificed.
 All of most worth I bound and burnt and slew:
The innocent small things, fair friends and Christ.
I slew all falser loves, I slew all true,
 For truth is the prime lie men tell a boy.
 Glory I cast away, as bridegrooms do
Their splendid garments in their haste of joy.

But when I fell and held your sandalled feet,
 You laughed; you loosed away my lips; you rose.
 I heard the singing of your wings' retreat;
 And watched you, far-flown, flush the Olympian snows,
 Beyond my hoping. Starkly I returned
 To stare upon the ash of all I burned.
إلى إيروس

من أجلك ، أحببتك,أيها الحب، أمنت بك؛
أمنتُ بك إيمانا قويا،وضَحَيتُ.
قيدتُ كل مايستحق  وأحرقته وذبحت
كل الأشياء الصغيرة البريئة، الأصدقاء المنصفين والمسيح.

ذبحت  كل المحبين الزائفين،ذبحت كل الحقيقة
لأن الحقيقة هي الكذبة الأولى  التي قالها رجل لطفل.
بكل فخر ألقيتهم بعيدا، كما يفعل العروسان
عندما يلقيان بملابسهما الفاخرة فى تعجل البهجة.

لكن عندما لمست وأمسكت بقدميك المرتدية الصندل،
ضحكتَ، أفقدتني شفتيّ؛ارتفعت.
سمعتُ ’تراجَع’؛
رأيتُك, تطفو بعيدا،تتدفق فى ثلج الأوليمب
بلا أمل. عدتُ بشكل صارخ
.لأحدق في رماد ما أحرقت
ويلفريد أوين
ترجمة/ مها جال


 آلي سميث :" تمتعنا شخصياتها بالمفاجئات"

من جريدة الجارديان

  "كيف أكون كليهما" مراجعة لرواية آلي سميث ثنائية السرد الرائعة.
       كنت كطفلة متابعة لسلسلة كتب "اختر مغامرتك" – كل كتاب مكتوب بصيغة المُخاطب ،مقدما للقارئ مختارات من البدائل للسرد التي يمكن أن يحيلك إليه الاختيار .
وعند العودة إليها الآن تبدو رجعية إلى حد طفيف كنموذج لألعاب الحاسب المصممة طبقا للموارد المتاحة حينها .حتما ستبعد عن الحداثة مع ظهور ألعاب" سوبر ماريو" و " القنفذ سونيك" .

بفضل الرب،ثم، آلي سميث التي جاءت بنسخة راشدة  بروايتها السادسة. يحتوي الكتاب على قصتين متضافرتين.لدينا بنتا مراهقة تدعى جورج والتي قد توفيت أمها منذ وقت قريب وتركتها تعاني صراعات  لتجد معنى للموت ،ومع أخيها الأصغر ووالدها المنفصل عاطفيا عنها. ثمّ لدينا فنانا إيطاليا من عصر النهضة ،فرانسيسكو دل كوسا ، شخصية مليئة بالحياة مسئولة عن الجداريات المدهشة فى قصر Schifanoia in Ferrara, بإيطاليا.

بناء على الجزء الذي ستلتقطه عشوائيا  من الرواية سوف تلتقي أولا بقصة جورج أو بقصة فرانسيسكو . نوعا السرد  يلتفان حول بعضهما مثل نباتات متشابكة – في واحدة من رحلات جورج الأخيرة مع أمها كانت لتشاهد جدارايات فيرارا ودِل كوسا ،كانت مسكونة برؤى غريبة لفتاة مراهقة تستخدم لوحة خشبية للوفاء بالنذر وترفعها للسماء "مثل قس يرفع الخبز". وحقيقة أن اللوح الخشبي هو عبارة عن حاسب لوحي "آى باد" تُبقي القارئ في مُزحة بينما فرانسيسكو لم يكن موجودا،وتلك واحدة من اللمسات البارعة التي ضمت سميث بها أجزاء الرواية.
فى قلبها," كيف أكون كليهما",وقد وصلت الرواية إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر, هي التحدي البليغ للثنائيات التي تحكم وجودنا .لماذا,سميث تبدو كمن يسأل , هل نتوقع كتابا يسير من ألف إلى باء,بطريقة الحبكة والحبكة الثانوية المعروفة, يتم تشخيصها بأناس من السهل فهمهم بأن يكونوا شيئا أو آخر؟
شخصيات سميث تستمتع بمفاجأتنا  - جورج لها اسم ولد ولكنها فتاة والتي اكتشفت جنسها حديثا؛ فرانسيسكو وُلِد بنتا ,قيد نهديه وعاش كرجل.وعندما دُعي فرانسيسكو من صديقه الرجل  إلى بيت دعارة  لم يشأ الفنان أن ينم مع العاهرة ورسمها بدلا من ذلك. بعد ذلك بقرون عندما درست جورج وأمها جداريات  دِل كوسا لم يفرقا في أعماله بين الذكر والأنثى. وفي النهاية قررتا أنه لا يهم.   حين رأى فرانسيسكو جورج لأول مرة أدعت أن جورج ولدا فقط لتدرك في النهاية أنها أخطأت .
     في نسختي "كيف أكون كليهما"  أدركت قصة جورج أولا. فتجربتها قدمتها بقوة تامة سميث التي تتذكر بوضوح ما الذي تفقده فتاة مراهقة  حادة الذكاء بدون أن تعترف به. إن حزن جورج على أمها  وحيرتها في فهم كيف أن محبوبا يتوقف ببساطة عن أن يكون موجودا ,هذه الفكرة المتحركة تقود إلى أسئلة لا تتوقف  لتبحث أين تقع الحدود بين ما هو حادث الآن وما سيحدث.

  هذه الثنائية هي قلب الكتاب: حيث يتزامن وجود الميت مع الحي وتتشابك قصصهما,أحينا بطريقة ليس لها معنى إلا أنها شاعرية . عندما كانت جورج فى إيطاليا  أخبرت أمها أن التاريخ يفزعها ,وهذه فقط ميزة للتعويض عازمة أن تكون بخير وأن تتغلب على الأتي.

ردت أمها على سلسلة من الأسئلة :"هل  ذهبت الأشياء؟.. هل ما حدث لم يكن موجودا,أم توقف عن وجوده,هذا لأننا لم نعد نراه يحدث أمامنا؟"
المتعة تكمن فى لعبة سميث التي اتخذتها في شكل الخيال التقليدي وهي أن القارئ يتفهم إثارة المشاعر قبل أن تعرفها شخصيات الرواية .لأنه, بالطبع, كل الأحداث مازالت تحدث – في تذكرها لأمها, استحضرت جورج حياة أمها وفي بحثها عن جداريات دِل كوسا,الفنان,أيضا,مازال حيا ويتنفس من خلال أعماله.
في هذه النصوص المليئة بالمرايا  لاشيء  مؤكد.في منتصف كتاب جورج  ,هى وصديقتها هـ   كان لديهما  تصميم لمشروع مدرسي عن موضوع " التعاطف".  وقررتا أن يكون على لسان فرانسيسكو دِل كوسا   بتخيل  حياته. هل يمكن أن يكون الجزء الخاص بفرانسيسكو مجرد نتاج تخيل عقل فتاتين مراهقتين؟  يُترك القارئ عالقا بين الأسئلة.
إنها حيلة مدهشة أن تلعب.  هل تمكنت سميث من جذبك , هذا يعتمد على نوعيتك كقارئ.

نصوص فرانسيسكو متناثرة فى شكل شظايا شعرية  ساحبة التسلسل الزمني للأمام وللخلف بعيدة عن الشكل الذي يبدو أحيانا من الصعب أن تفهم ما يحدث.لكن جملة مثل" في الأسفل من/هذا الخط الرفيع/مصنوع من لاشيء /أرض وحصى /  اجتماع القذر والأرض و/وحبات الحجارة .." لا يمكن إنكار جمالها , ولهذا هل يهم أن تستنتج ما يحدث؟
شخصيا فضلتُ سرد جورج وبسعادة قرأت رواية متكاملة  تحتوي على أكثر من الحبكة التقليدية لقصتها. أُعجبت بنصوص فرانسيسكو وانهمكت فيها  ومن حين لآخر تشعر كما لو كانت  أفكار سميث الماهرة للغاية في خطر إزعاج القصة .

ولكن لا شك أن سميث رائعة في جرأتها .وقوتها المطلقة في إبداع روايتها تجذبك  وتجعلك تلهث حتى الصفحة الأخيرة.





http://www.dar.akhbarelyom.com/issuse/detailze.asp?mag=a&field=news&id=9151





http://www.masress.com/adab/9151

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

 كان ما يكتب عن حبيبين لا يُفهم من رؤية وجه أحدهم ينظر إلى 

وجه الآخر،وماتعرفه العين من العين لا تعرفه ألفاظ،ولكن بأسرار...
والغليل المستعر في دم العاشق كجنون المجنون: يختص برأسه 
وحده.
وضمة المحب إحساس لا يستعار من صدر آخر، كما لايستعار المولود لبطن لم يحمله.
وكلمة القبلة التي معناها وضع الفم، لن ينتقل إليها ما تذوقه الشفتان!
ويوم الحب يوم ممدود،لاينتهي في الزمن إلا إذا بدأ يوم السلو في الزمن...
فهل يستطيع الخلق أن يصنعوا حدا يفصل بين وقتين لينتهي أحدهما...؟
وهبهم صنعوا السلوان، ومن الف برهان وبرهان ، فكيف لهم بالمستحيل ، وكيف لهم بوضع السلوان في القلب العاشق ؟
واذا سألت النفس من رقة الحب، فبأي مادة تصنع فيها صلابة الحجر.. ؟
وما هو الحب إلا إظهار الجسم الجميل حاملا للجسم الآخر كل أسراره ، يفهمها وحده فيه وحده ؟
وما الحب إلا تعلق النفس بالنفس التي لا يملؤها غيرها بالإحساس ؟
وما هو الحب إلا إشراق النور الذي فيه قوة الحياة، كنور الشمس من الشمس وحدها ؟
وهل في ذهب الدنيا وملك الدنيا ما يشتري الأسرار والإحساس ، مصطفى صادق الرافعي " وحي القلم" - انتصار الحب

 إليوشا - قصة قصيرة- ليف تولستوي - ترجمتي ..من مجموعة : موت إيفان ايليتش" الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة- آفاق  عالمية - سلسلة ال 100 كتاب



إليوشا الإناء



إليوشا أصغر إخوته، وهم يدعونه "الإناء"...أرسلته أمه ذات مرة بوعاء لبن لزوجة الشماس فتعثر بشيء ما  وكسر الوعاء، ضربته أمه وسخر منه الأطفال. ومنذ ذلك الوقت أطلقت عليه  لقب (الإناء ) . إليوشا كان نحيفا صغير الجسم  بأذنين  كالجناحين  وأنف ضخمة . " إليوشا له أنف  تشبه كلبا على التل " هكذا اعتاد الأولاد أن يقولوا من ورائه . ذهب إليوشا إلى مدرسة القرية  ولم يكن طالبا مُجدا , بالإضافة لقلة الوقت المخصص للتعليم . فأخوه الأكبر يعمل فى المدينة لدى تاجر, وعلى إليوشا مساعدة الأب منذ طفولته المبكرة . منذ أن كان في السادسة لا أكثر اعتاد أن يذهب مع الصغيرات لمتابعة الأبقار والماشية فى المرعى  , وبعد فترة قصيرة كان يعتني بالخيول ليل نهار.فى سن الثانية عشرة  كان قد اعتاد على حرث الأرض وقيادة العربة  الكارو.كانت لديه الموهبة لكن لم تكن لديه القوة الكافية .كان دائما مرحا  وعندما كان الأولاد يسخرون منه كان إما يضحك أو يبقى صامتا . عندما يوبخه والده  يقف صامتا ويستمع بانتباه وبمجرد أن ينتهى التوبيخ يبتسم ويذهب إلى عمله .  كان إليوشا قد بلغ  التاسعة عشرة عندما دخل أخوه الجندية . لذلك أرسله الأب إلى التاجر بدلا من أخيه  كحمال . أعطوه حذاء أخيه القديم، ومعطف أبيه وقبعته القديمتين . وأرسل إلى المدينة . فرح إليوشا بملابسه  لكن التاجر لم يسره شكله .                                                                     

"اعتقدت  أنك ستأتى لى برجل بدلا من سيميون " قالها وهو يتفحص إليوشا  :" فإذا بك تحضر لي هذا ! فما  الفائدة من ورائه؟"                                   

" إنه يستطيع القيام  بكل شيء ؛ يعتنى بالخيول ويقود العربة : إنه صالح  للعمل .يبدو نحيفا إلى حد ما, لكنه قوي تماما .ولديه الرغبة تماما. "                                                                           

             " نعم , يبدو كذلك . حسنا , سنرى ماذا يمكننا أن نفعل  به"                                                                                                                                          

وهكذا بقي إليوشا مع التاجر.                                                                  

لم تكن أسرته كبيرة ؛  كانت تتألف من التاجر وزوجته, والدته المسنة : ابن متزوج  لم يتعلم جيدا يعمل مع والده , ابن آخر متعلم أنهى تعليمه فى المدرسة والتحق بالجامعة لكنه طًرد .. وكان يعيش فى المنزل ، وابنة  ماتزال في المدرسة.                                               

لم يتعودوا على إليوشا فى البداية .  كان شكله فظا وملبسه رديء  كان بالنسبة لهم لا أهمية له , لكنهم سرعان ما تعودوا عليه . وعمل إليوشا  حتى أفضل من أخيه ؛  كان لديه الاستعداد دائما. كانوا يرسلونه في  كل المهام  لكنه كان يؤديها كلها بترحيب وبسرعة،  ذاهبا من مهمة إلى غيرها ثم لأخرى دون توقف . وهنا , مثلما يحدث  في المنزل  ألقي كل العمل على عاتقه . كلما قام بالكثير تم تكليفه بأعمال أكثر .سيدته ،أمه العجوز ,الابن . الابنة الموظف, والطباخه كلهم  كانوا يأمرونه ويرسلونه من مكان لآخر .                                                                  

" إليوشا , فلتفعل هذا ! إليوشا  فلتفعل ذاك ! ماذا! هل نسيت ,يا إليوشا ؟ فلتحرص على ألا تنسى  يا إليوشا! " كانت تُسمع هذه الكلمات من الصباح وحتى الليل . إليوشا يجرى هنا  و يعتني بهذا وذاك ولا ينسى شيئا , ويجد الوقت لكل شيء ودائما مبتهج .                                         

. 

تمزق حذاء أخيه بسرعة , وبخه سيده على ملابسه البالية و حذائه الذي تبرز منه أصابعه . أمر بشراء بحذاء جديد له من السوق .  فرح اليوشا بحذائه الجديد , لكنه كان يغضب عندما يؤلمه إصبعه فى نهاية يوم من الأعمال الشاقة. ثم إنه كان يخاف  من غضب أبيه عندما يأتى ليأخذ الراتب  و يعرف أن السيد قد خصم جزءا منه للحذاء .

و فى الشتاء, كان إليوشا معتادا على النهوض  قبل الفجر, كان يشق الأخشاب ، يكنس الفناء, يطعم الأبقار  والخيول , و يشعل الموقد ,  ينظف الأحذية و يعد السماور ( آنية الشاى ) ويلمعها ؛ أو يرسله الموظف لشراء بعض اللوازم ,   أو تجعله الطباخة يعجن الخبز وينظف القدور . ثم يتم إرساله إلى المدينة لبعض المهام المختلفة , ليحضر الابنة من المدرسة , أو لشراء بعض زيت الزيتون للأم العجوز " لماذا- بحق الشيطان تتأخر هكذا ؟يقولها له واحد, ثم الآخر . لماذا تذهبون ؟ فإليوشا يمكنه أن يذهب . إليوشا!إليوشا!.. ويجرى إليوشا هنا وهناك . يتناول فطوره خطفا أثناء عمله , ونادرا ما نجح في تناول عشائه فى الوقت المناسب .  وكانت الطباخة  معتادة على توبيخه دائما على تأخره, لكنها كانت  حزينة من أجله على أية حال , وتحتفظ له بعض الأكل الساخن لغدائه و عشائه .                                                        

وفي الأجازات يكون العمل أكثر من ذي قبل لكن إليوشا  كان يحب الأجازات لأنه يأخذ البقشيش من الجميع . ليس كثيرا فى الحقيقة لكنه يصل إلى 60 كوبك ( نقوده الخاصة ) ذلك أن إليوشا لم يبصر أبدا راتبه. فقد اعتاد والده أن يأتي ويأخذه من التاجر  و أيضا يوبخه على أنه أبلى حذاءه .              

وعندما ادخر 4 روبلات , حسب  نصيحة الطباخة اشترى سترة تريكو حمراء  لنفسه, وكان سعيدا للغاية عندما ارتداها , إلى حد أنه لم يستطع إغلاق فمه من الفرحة . إليوشا لم يكن ثرثارا ؛إذا ما تحدث أصلا, فهو  يتحدث فجأة وهو يدير رأسه .وعندما يؤمر بعمل شيء ما أو يُسأل إن كان يمكنه القيام به, كان يقول نعم بلا أدنى تردد , ويشرع في العمل فى الحال .                                                                                    

لم يعرف إليوشا أية صلاة  ونسي ما علمته إياه أمه . لكنه  كان يصلي نفس الصلاة كل صباح و كل مساء يصلى بيديه وهو يرسم شارة الصليب على نفسه .                                                  

وقد عاش  على هذا النحو لعام ونصف تقريبا  وقرابة  نهاية العام الثانى  حدث له شيء مذهل . اكتشف ذات يوم – في استغراب بالغ- أنه بالإضافة إلى العلاقة النفعية بين الناس  فهناك أيضاعلاقة أخرى,  علاقة خصوصية ذات سمة بالغة الاختلاف. بدلا من هذا الرجل المطلوب لتنظيف الأحذية  , وإرساله إلى المشاوير  وسرج الأحصنة , فإنه ليس  مرغوبا  من أجل أي خدمة من هذه الخدمات أبدا ,بل ثمة شخص آخر يريد خدمته ويحبه . فجأة أحس إليوشا أنه مثل هذا الرجل .                                          

اكتشف هذا فى الطباخة يوستينا , كانت صغيرة  وبلا أم أو أب وتقوم بأعمال شاقة مثل إليوشا . شعر لأول مرة في حياته أنه هو- وليس خدماته, بل هو بنفسه- كان ضروريا لإنسان آخر . فحينما  كانت أمه  تحزن من أجله , لم يكن ليلحظ ذلك. كان ذلك يبدو له أمرا طبيعيا  تماما, كأنه كان يشعر بالحزن على نفسه . لكن هنا كانت يوستينا   شخصا غريباتماما,  و يحزن من أجله .  كانت تحتفظ له  ببعض الحساء الساخن  وتجلس  وهي تنظر إليه  , مسندة ذقنها على ذراعه العارية ,لأنه يشمر أكمامه عندما يأكل .  وعندما ينظر ‘إليها تضحك ويضحك هو  أيضا ...                                                                                             

كان ذلك شيئا جديدا, وغريبا بالنسبة له إلى حد أن أخاف إليوشا . خاف أن يتدخل  ذلك فى عمله  . لكنه كان سعيدا  . و مع ذلك عندما يرى بنطلونه الذى أصلحته له يوستينا كان يهز رأسه ويبتسم  . وكان يفكر فيها كثيرا  أثناء عمله , أو عندما يجري لأداء مهمة ما " بنت طيبة , يوستينا !" كان  يتعجب أحيانا .


 كانت يوستينا معتادة على مساعدته قدر استطاعتها, وكان يساعدها. حكت له  كل شيء عن حياتها ؛ كيف فقدت أبويها , كيف تبنتها عمتها  ووجدت لها مكانا فى المدينة : وكيف  حاول ابن التاجر أن يأخذ حريته  معها وكيف أنها صدته  . كانت تحب  أن تتكلم وأحب إليوشا أن يستمع لها . لقد سمع أن الفلاحين الذين يأتون للعمل فى المدينة يتزوجون غالبا من خادمات . وفى إحدى  المناسبات  سألته إن كان  والداه يرغبان  فى تزويجه قريبا . فأجاب بأنه لا يعرف , وأنه لا يرغب الزواج من إحدى فتيات القرية .                                                                                    

" هل أعجبت بواحدة من قبل,إذن ؟"                                                                    


" أريد الزواج منك , إذا قبلتِ."

            " أنا منسجمة معك  , يا إليوشا  "الإناء " , وقد وجدت لسانك ,أليس كذلك؟" صاحت وهي تضربه على ظهره بمنشفة في يدها ." ولمَ لا ؟"                                                                            
في شروفيتايد جاء والد إليوشا ليأخذ الراتب  . ووصل إلى مسمع  زوجة التاجر أن إليوشا يريد الزواج بيوستينا,  لكنها لم توافق على ذلك " ما الفائدة منها وهى تحمل طفلا ؟" فكرت ثم أخبرت زوجها .                                                                     

أعطى التاجر الرجل العجوز راتب إليوشا.                                                            

" كيف  حال الفتى معك ؟" سأل " "قلت لك أنه راغب".                           

" حسنا , الأمور تسير بخير , إلا من بعض الهراء   الذي يدور في رأسه , فهو  يريد الزواج من طباختنا . وأنا لا أوافق على زواج الخدم . لن نريدهما فى منزلنا ".

" حسنا , الآن , من كان يظن أن هذا الأحر  سيفكر في أمر كهذا ؟" تعجب الرجل العجوز "  لكن لا تقلق . فسوف أحل هذا الموضوع قريبا."                                                               

دخل المطبخ وجلس إلى المائدة  ينتظر ابنه  . كان إليوشا  بالخارج في أحد المشاوير , وجاء مقطوع الأنفاس.


" اعتقدت أن عندك بعض العقل ؛لكن ما  هذا الذي يدور برأسك ؟ " بدأ والده الكلام ."

" أنا ؟ لاشيء ."                                                                                 

"  كيف , لاشيء ؟ قد أخبروني أنك تريد الزواج . سوف ستتزوج لكن فى الوقت المناسب . سأزوجك من زوجة لائقة ,وليس من إحدى عاهرات المدينة ."                                 

تحدث الأب وتحدث , بينما وقف إليوشا ساكنا  يتنهد . عندما انتهى الأب من الحديث , ابتسم إليوشا .                                                                                             


" وهو كذلك , سألغي هذا الأمر ."                                                                

" وهذا هو العقل ."                                                                                

عندما انفرد  بيوستينا أخبرها بما قاله والده  .(  كانت قد سمعت الكلام عبر الباب )               

" إنه ليس  أمرا جيدا ؛ لا يمكن  لهذا أن ينتهي . هل تسمع ؟ لقد كان غاضبا .. لن يحدث هذا مهما بلغ الثمن  "                                                                                        
بكت يوستينا , خبأت وجهها فى المريلة .                                                    

هز إليوشا رأسه.                                                                                   

" ماذا نفعل ؟ لابد أن ننفذ ما قيل لنا."                                                       

 " حسنا , هل ستكف عن هذا الهراء  , كما قال والدك ؟ قالت سيدته بينما كان  يهيئ الستائر  فى المساء .                                                                            

" بالتأكيد سنفعل " رد إليوشا بابتسامة , ثم انفجر فى البكاء .                              

منذ ذلك اليوم استمر إليوشا فى عمله كالمعتاد  ولم يتحدث مع يوستينا عن زواجهما  وذات  يوم طلب الكاتب  منه أن يزيل الثلج من السطح , صعد إليوشا صعد للسطح وأزال كل الثلج ؛ وبينما كان يجمع بعض كتل الثلج  من المزراب انزلقت قدمه   وسقط . لسوء حظه لم يسقط على الثلج , بل سقط على قطعة حديد على الباب . جرت يوستينا عليه مع ابنة التاجر .                                                                                         

" هل أًصبت يا إليوشا ؟"                                                                            

" آه ! لا , لاشيء "                                                                              


لكنه لم يستطع أن يرفع نفسه  كلما حاول , وبدأ في الابتسام .                                                          

أدخلوه إلى الكوخ . وصل الطبيب وفحصه  , سأله عن مكان الألم .                      

" أشعر أنه فى كل جسمى ,لكن لا يهم . أخشى أن يتضايق سيدي . لابد أن تخبروا أبى "

رقد إليوشا يومين فى السرير , وفى اليوم الثالث أرسلوا إلى القس .                             

سألته يوستينا :" هل حقا ستموت ؟"

" بالطبع سأموت, فلا يمكن أن نعيش إلى الأبد . فلابد أن نرحل عندما يحين الوقت " تكلم إليوشا بسرعة كعادته . " شكرا , يوستينا لقد  كنت طيبة معي .  كم هو  شيء سعيد إذ لم يسمحوا لنا بالزواج !  ماذا  كان سيحدث لنا  الآن؟ إنه أفضل الآن ."

حين جاءالقس , صلى مع فرقته  وبقلبه ." مثلما كنت هنا تطيع ولم تؤذ أحدا , ستكون هناك بخير ," كانت تلك الفكرةالرئيسية.

تحدث قليلا جدا ؛ فقط قال أنه عطشان , وبدا أنه مندهش من شيء ما .

رقد مندهشا,ثم  تمدد, ومات .



http://alketaba.com/index.php/2013-10-30-09-53-50/item/4980-2015-11-29-11-56-31.html




لعل مفتاح عبقرية الروائى الروسى الفذ ليف تولستوى (وربما ينطبق ذلك أيضا كبار المبدعين الروس من ديستوفيسكى الى تشيكوف)، أنه كان مزيجا مدهشا بين المفكر والفنان، لديه ما يقول من تأملات وأفكار، ولديه أسئلة تشغله وتؤرقه، ولكنه يعرف كيف يطرح ذلك بفن، ويدرك أن أفضل ما يفعله لخدمة فكرته، أن يخلص أضعافا مضاعفة للفن الذى يكتبه.
يتضح هذا التمكن الفنى فى استخدام مادة ضخمة تنتج عددا ضخما من الصفحات كما فى روايتى "الحرب والسلام" ، و"آنا كارينينا"، مثلما يتضح كذلك فى العمل على مادة محدودة تنتج رواية قصيرة (نوفيلاّ) من عيون الأدب العالمى هى "موت إيفان إيليتش" الذى صدرت ضمن المائة كتاب فى سلسلة آفاق عالمية، التى تصدرها هيئة قصور الثقافة المصرية ( العدد رقم 13). هذه السلسلة من أهم وأفضل ما يصدر من ترجمات لأبرز الأعمال الأدبية العالمية فى مصر، وقد ترجمت رواية تولستوى وقدمت لها مها جمال، ولأن الرواية قصيرة بالفعل، ولا تتجاوز صفحاتها 95 صفحة من القطع الصغير، فقد أضيفت الى  الطبعة مجموعة من قصص تولستوى القصيرة البديعة، والتى لا ينحاز فيها إلا الى الإنسان، ومرة أخرى يبدو الفنان عملاقا بالذات عندما يطوع أفكارا صعبة، ليصوغ منها تمثالا ضخما، أو عملا نحتيا صغيرا، أو حتى قطعة من المنمنمات، كلها قوالب يمتلكها، ولا يخضع إلا لحرفة السرد عندما يكتبها، أما عندما يريد أن يفكر بصوت أعلى، فإن تولستوى كان يلجأ الى الكتابة المباشرة، التى تتيح له أن يشرح وينظّر ويسأل بشكل صريح، هكذا فعل مثلا فى كتابه الشهير :" ما الفن؟" ، وفى الكثير من تأملاته المكتوبة.
الموت هو محور رواية "موت إيفان إيليتش" الكبير. ليس الحدث نفسه الذى قد لايستغرق ثوان معدودات، يعود بعدها الإنسان جسدا بلا روح، ولكن ما يفعله فينا هذا الحدث الذى لا استثناء فيه. تولستوى يعمل  هنا فى إطار ثلاثة أشهر هى الفترة ما بين إصابة إيفان إيليتش قاضى المحكمة، وموظف الدولة الكبير، بآلام مفاجئة فى جنبه، وبين لحظة وفاته. لا يغادر تولستوى تلك الأشهر الحاسمة إلا ليبدأ روايته بجنازة إيفان، ثم يقدم لنا فى صفحات قليلة تاريخ إيفان الوظيفى قبل المرض، فيما عدا ذلك، فإن الرحلة فى جوهرها داخل عقل رجل يقترب من الموت باليأس والألم، ويبتعد عنه بالدواء والأمل، الموت هو بطل الرواية الحقيقى الذى يلوح فى اسمها، وفى افتتاحية الجنازة، وفى النهاية أيضا :" لقد انتهى!"، قالها شخص ما بجواره". سمع تلك الكلمات، ورددها داخل روحه. "انتهى الموت"، قال لنفسه، "لم يعد موجودا!". . سحب نفساً، وفى منتصف الشهيق، تصلّب، مات. "
موت إيفان لم يكن بالنسبة لزملائه القضاة إلا فرصة لكى يحلم بعضهم بأن يحتلوا منصبه، لكى يزيد دخلهم، وفى الجنازة، تسأل الزوجة القاضى زميل إيفان عن إمكانية زيادة المعاش، الأحياء عموما يتعاملون مع موت الآخرين بأنه أمر بعيد عنهم، عندما تسمع خبر وفاة شخص ما، فإن الحزن يقترن بفرحة النجاة، لإنه هو الذى مات، أما نحن فما زلنا أحياء. هذه الفكرة يكررها تولستوى مستعينا بقدرته الفذة على تحليل النفس البشرية، ولكن ماذا سيفعل انتظار الموت فى إيفان الموظف العمومى، والذى يصفه وكأنه يصف ملايين غيره بقوله :" كانت حياة إيفان إيليتش بالغة البساطة والعادية، ولهذا كانت بالغة الفظاعة" .
إيفان نموذج لطبقة الموظفين، والده كان عضوا بالمجلس الإستشارى الزائد عن الحاجة فى مؤسسة زائدة عن الحاجة، ولكن إيفان امتلك طموحا أكبر، فبعد حصوله على شهادة القانون، بدأ المشوار متأهلا للدرجة العاشرة للخدمة المدنية، والتحق بمكتب حاكم إحدى المقاطعات، فى مكتب الخدمات الخاصة، ثم انتقل الى العمل القضائى، فأصبح قاضيا للتحقيق، ثم وكيلا للنيابة، ثم صار قاضيا من أعضاء المحكمة، وفى كل وظيفة، حاول إيفان أن يفصل بين حياته الشخصية وعمله الرسمى، ولكن ظلت علاقته الدائمة بالأوراق المكتوبة، أو بورق اللعب، لم يكن يجد وسيلة للتسلية سوى فى لعب الورق.
ومثل أى صاحب منصب تزوج، ثم أنجب أولادا لم يبق منهم إلا فتاة فى سن الزواج، خطبت لابن قاض مرموق، وصبى ما زال فى مرحلة الدراسة، ومثل أى موظف كبير استأجر بيتا وخدما، وقضى وقتا طويلا فى تجهيز ستائر وديكورات منزله، وأشيع غروره وهى يسمع عبارات الإنبهار من وزوجته وابنته وابنه بعد أن شاهدوا المكان، رغم أن المنزل لم يكن، بكل ما فيه، إلا تقليدا رخيصا لمنازل الطبقات الأرستقراطية. كان إيفان وأسرته أيضا نسخا مزيفة للأثرياء، فئة ليست فقيرة، وليست أرستقراطية أصيلة، وإنما هى معلّقة بين الاثنين.
يربط تولستوى بين وقوع إيفان أثناء تركيب ستائر منزله، وبين الآلام التى ستهاجمه بعد مرضه، إيفان ايضا يساوره الشك فى هذا الربط، رغم أنه قد لا يكون صحيحا من الناحية الواقعية، ولكنه يحمل دلالة رمزية واضحة، ذلك أن إيفان سيصف صعوده المادى بأنه هبوط، تماما كما تلقى بحجر فى الهواء ، فيسقط بسرعة أكبر، المنزل كان عنوان الصعود، وعنوان السقوط معا، فيه كان المرض، وفيه تألم، وفيه حدثت الوفاة.
ولكن تولستوى يغوص ببراعة داخل عقل وهواجس بطله الذى يتأرجح بين الأمل واليأس، المرض يلوّن نظرته للأمور: الطبيب بالنسبة له رجل يكذب، يمارس سلطته عليه، مثلما كان يمارس هو سطوته على كل متهم، علاقة إيفان بزوجته تسوء، كانت علاقتهما مضطربة دوما، ولكنها أخذت شكلا أسوأ بعد المرض، الزوجة تتهم إيفان دوما بعدم أخد الدواء، تضع عليه اللوم فى كل مرة، يشعر إيفان أنها تريد أن تتخلص منه، ولكنها تعرف أن موته لن يحل مشاكلهم المادية، المعاش أقل من الراتب، الابنة تزور والدها وكأنها تؤدى واجبا، ثم تهرع مع خطيبها لكى تلحق بمسرحية لسارة برنار فى دار الأوبرا، لا يستشعر إيفان تعاطفا إلا من خادمه الريفى المخلص، ومن ابنه الصغير.
يتقلص الجسد، يتغير، تفقد الساعات والدقائق معناها مع ساعات جلوسه الطويلة، وحيدا، يحتاج الى مساعدة الآخرين، حتى أثناء قضاء حاجته، ثم يبدأ الألم الرهيب فى الكُلى، ينطلق العقل فى اسئلته، يبكى إيفان كطفل :" بكى لإحساسه بقلة الحيلة، ومن وحدته المرعبة، وقسوة البشر، وقسوة الرب، وغيابه" . تساءل : "لماذا تفعل بى كل هذا؟ لماذا أحضرتنى الى هنا؟ لماذا، لماذا تعذبنى بتلك القسوة؟" ، يواصل تولستوى الكشف عن أفكار بطله الوحيد:" لم ينتظر إجابة، وبكى، مع ذلك ، لأنه ليست هناك إجابة ولايمكن أن تكون، ومن جديد أصبح الألم أكثر حدة، لكنه لم يتحرك ولم يستدع أحدا، قال لنفسه : استمر، اضربنى! ولكن لماذا كل هذا؟ ماذا فعلت لك؟ لماذا كل هذا؟".
فى تلك اللحظات القاسية يتمنى إيفان بغريزة الحياة أن يعيش مثلما كان، فيخرج من داخله سؤال أعقد: " وهل كان يعيش حقا؟ هل كان سعيدا؟"، عندما يعود إيفان الى ماضيه، لايجد ما يستحق السعادة سوى لُحيظات من طفولته، يؤدى استدعاؤها الى مزيد من الألم. ممددا بلا حول ولا قوة، يكتشف إيفان زيف عالمه، وزيف فكرة صعوده نفسها :" كان يبدو وكأننى أنزل الى الوادى فيما كنت أتخيل أننى أصعد. كنت أصعد بالنسبة للرأى العام، لكن بنفس النسبة كانت الحياة تنحسر بداخلى، والآن، انتهى كل شىء، ولم يتبق سوى الموت" .. " بدأ يراجع حياته بطريقة جديدة تماما، وفى الصباح عندما رأى الخادم، ثم زوجته، ثم الطبيب، كانت كل كلمة وحركة منهم تؤكد له الحقيقة المرّة، التى تكشفت له خلال الليل، رأى نفسه فيهم، كل ما عاش من أجله، ورأى بوضوح تام أنه لم يكن حقيقيا بالمرة، بل كان خدعة كبيرة ومرعبة تخفى حقيقة الحياة والموت" ، تعذب إيفان نفسيا بهذا السؤال الذى طارده بلا رحمة: " وماذا لو كانت كل حياتى خطأ؟".
الأفيون يسكّن آلام الجسد، ولكن الروح التى أدركت حقيقتها العارية تتعذب، ثلاثة أيام كان صوت إيفان الصارخ من الألم يشق جنبات منزله، صراخ فى الميلاد، وصراخ فى الوداع، كان محشورا فى حقيبة الموت، يحاول أن يدخلها، عندما قبّله ابنه لمح ضوءا لأول مرة، تساءل عما يكون الصواب، تعود على الألم، لم يعد يخشى الموت، تخلص منه، احتضر ساعتين، ثم مات. يقدم تولستوى أحد أعظم مشاهد الموت فى تاريخ الرواية، مزيج مدهش بين آلام المرض، وآلام الميلاد الجديد، وكأن لحظة النهاية بالنسبة لإيفان، لم تكن فى حقيقتها سوى لحظة تنوير، بداية اكتشاف الحقيقة أخيرا، حقيقة حياته ، وحقيقة الأخرين، وكأن الألم ليس إلا  تعبيرا عن صرخة الكشف، وصدمة مواجهة الذات.
"موت إيفان إيليتش" هى أيضا بنفس القدر رواية عن الحياة، قال نجيب محفوظ ذات مرة :" موت إنسان هو أعظم مناسبة  للتفكير فى الحياة وليس فى الموت. علينا أن نسأل أنفسنا :" وماذا فعلنا ونفعل  نحن بحياتنا؟"،  لا أجد أفضل من عبارة محفوظ للكشف عن مفتاح رواية تولستوى العظيمة، بل لعل محفوظ استلهم عبارته من معنى رواية تولستوى. البساطة المذهلة فى السرد تخفى  فى الرواية أسئلة مفزعة عن ماهية الحياة ، ماهية الموت، ماهية الألم، أسئلة عن علاقة الإنسان بذاته، وبالآخرين، عن الفارق بين أن نعيش أو أن نحيا بالفعل، هل الألم عقاب أم أنه تطهر؟ هل الموت فناء أم أنه لحظة اكتشاف وتأمل لحياتنا بأكملها؟ هل الموت كارثة أم أنه اللحظة الحقيقية الوحيدة التى نعيشها؟ هل الخلاص يكون بالحياة أم أنه قد يكون بالموت أيضا؟
لا مثيل لهذا العمق الذى طرق به تولستوى موضوعه فى صفحات قليلة، ومن خلال حدث واحد فقط. كان تولستوى يمتلك بصيرة الفنان، التى تجعله يقرأ أعماق العقل والنفس والروح، لعله كان يكتب نفسه فى كل مرة رغم  تغير الأسماء، كان إيفان أحد أقنعة تولستوى لكى يطرح أسئلته التى تؤرقه، راجع الروائى العظيم حياته بأكملها، وقام بتغييرها قبل أن يموت، لم يتنظر اللحظة الأخيرة مثل إيفان، تراه كتبه ثم تعلّم منه؟ كان اللورد بايرون يقول عن بصيرته الفنان : " إنهم ينظرون، ولكنى أرى"، وأحسب أن هذه العبارة تنطبق أيضا على تولستوى، وعلى كبار مبدعى الرواية الروس : كنا ننظر، فأصبحنا نرى الحياة، بفضل ما كتبوه، أعمق وأوضح.